تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وليس معنى اهتمام عبد القاهر بالغموض الشعري قبوله للنص الغامض بصورة مطلقة، فلقد بين عبد القاهر الجرجاني أهمية الغموض وحدد عناصره في تقدير الجودة اللازمة للنص الشعري، وميز بين الغموض المطلوب في العمل الأدبي والتعقيد السلبي الناشئ عن الضعف والركاكة وسوء الفهم من المبدع للمعاني والصيغ التي يقوم بالتعبير عنها، كما أبرز الفرق بين الغموض والوضوح وبخاصة في التأثير والدخول إلى أعماق المتلقي فقال:"إذا كان النظم سوياً، والتأليف مستقيماً، كان وصول المعنى إلى قلبك تلو وصول اللفظ إلى سمعك. وإذا كان على خلاف ما ينبغي وصل اللفظ إلى السمع، وبقيت في المعنى تطلبه وتتعب فيه. وإذا أفرط الأمر في ذلك صار إلى التعقيد الذي قالوا: إنه يستهلك المعنى" ().

فالغموض يجعل من النص الإبداعي العادي نصاً إبداعيا متميزا، له فضل على ما يشابهه من النصوص التي لا تحمل هذه الصفة، ومن هنا فإن الجرجاني يقدم رأيا فنيا عقليا لا يعارض الوضوح والقرب في المعاني الأدبية شريطة أن لا يصل هذا الوضوح إلى حد السطحية والركاكة والضعف -وإن كان الغموض أولى عنده كما سبق أن أشار الباحث- والذي يؤثر في جودة العمل الإبداعي مما يبعده عن جوهره في اجتذاب المتلقي وإثارته؛ للوصول إلى التأثير فيه، فالنص الذي تتعدد وجوه الرؤى والتأويل فيه، و يستفز القارئ، ويستنفر فيه الهمة والحمية إلى بذل الجهد في المتابعة والتفكير هو ذلك النص الإبداعي الأصيل الذي يحقق فيه القارئ رغباته، ويشبع فيه متطلباته، ويجد فيه نفسه بصورة متكاملة مما يحقق له درجة عالية من الجودة، "وعبد القاهر دقيق النظر في تفريقه بين هذا الغموض الضروري، الذي هو ركن من أركان الشعر المهمة وبين نوع آخر يسميه التعقيد الذي يذمه ويقصيه عن البلاغة والبيان وهو التعقيد الذي ينتج فيه الغموض عن اضطراب في النظم" ().

إذ إن سمة الغموض ركيزة أساسية للعمل الإبداعي عنده، وهو ما يعكس مقدار الوعي النقدي الكبير عنده بضرورة الغموض أو درجة منه في الشعر الجيد الممتع، ولذا فقد عد الجرجاني سوء النظم والتأليف وانغلاق الكلام سبباً من أسباب التناهي في الغموض إلى درجة التعقيد، يقول"واعلم أن لم تضق العبارة ولم يقصر اللفظ ولم ينغلق الكلام في هذا الباب إلا لأنه قد تناهى في الغموض والخفاء إلى أقصى الغايات () "، ويكشف هذا الموقف للجرجاني عن إدراكه لأهمية الغموض في بنية النص الإبداعي، فهو جوهره وأساسه؛ فالغموض هو الذي يثير الدهشة والاستفزاز للمتلقي، "وما يؤكد تصور عبد القاهر لدور الغموض في حث القارئ على المشاركة واستمتاعه بلذة اكتشاف المعنى حديثه عن الكلام الدقيق الذي يحتاج إلى تأمل، فهو يرى أن الكلام قد يكون في نهاية الوضوح ولكنه مع ذلك يحتاج إلى إعمال فكر إذا كان لطيفا" ()، كذلك يبرر ذم الناس للغموض لأن صاحبه يجعل السهل صعبا، يجعل طريق الوصول إلى المعنى شائك"هذا والمعقَّد من الشعر والكلام لم يُذَمَّ لأنه مما تقعُ حاجةٌ فيه إلى الفكر على الجملة، بل لأنّ صاحبه يُعْثِرُ فِكرَك في متصرَّفه، ويُشيكُ طريقك إلى المعنى، ويُوعِّر مذهبَك نحوه، بل رُبّما قَسَّم فكرَك، وشعَّب ظَنَّك، حتى لا تدري من أين تتوصّل وكيف تطلب" ().

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير