مهما يكن، يبقى الإلتزام مظهرا مطلوبا في الأدب العربي كما هو الحال مع كل كتاب العالم الذين يتفاعلون مع قضايا مجتمعاتهم متجاوزين الأطر التقليدية للإلتزام الذي يعني فقط الولاء دون موقف يفرضه المبدع بحرية تامة رافضا أية املاءات أوحتى ايحاءات قد تنال من مصداقية إلتزامه.
الالتزام في الأدب هو أيضا إلتزام بروح جماليات النص وبمدى الثورات التي تندلع منه محدثه التغيير ومن ثم الإبداع.
قد يكون الأدب شهد مرحلة فتور نالت من حضوره، لكنه دائما يعود بقوة لا سيما عند الجمهور الذي يلتفت إليه كلما غشيت عيناه ضبابة الغموض وعجز عن قراءة الحاضر والماضي، وعجز كذلك عن قراءة دواخله التي تعج بالتناقضات والصراع المستمد مما يحدث حوله من تغيرات سريعة لا يستطيع مجاراتها.
*ولكن كيف نفرق بين الالتزام والإلزام؟ ...
إن التفريق بينهما يبدأ من المعنى اللغوي لكل منهما:
فالالتزام يأتي بمعنى: اعتناق الشيء والتعلق به وعدم مفارقته، وأما الإلزام فإنه يكون بمعنى: التبكيت والقسر والإكراه؛ ولذلك فإن مصدر الالتزام يكون في الغالب نابعًا من نفس الملتزم، منطلقًا من رغبته الذاتية؛ بمعنى أنه يصدر من الشخص طواعية واختيارًا؛ ولهذا فهو يحبه ويتعلق به ولا يبغي عنه حولاً. وعلى هذا المعنى فإن الالتزام موافق لطبع الإنسان، مجار لفطرته، ومنسجم مع إنسانيته؛ لأنه قد خرج من نفسه عن اقتناع به ورغبة فيه.
أما الإلزام فإنه مصادم للطبع، ومناقض للفطرة؛ فلا يليق بمنزلة الإنسان ولا يتفق مع مكانته؛ فالبون بينهما جدٌّ كبير ومتسع.
وإذا عرف الفرق بين الالتزام والإلزام من خلال ذلك المفهوم الآنف الذكر ثم أريد تطبيق الالتزام ذي المعنى اللغوي المتقدم على الالتزام الإسلامي في الأدب – الذي سبق بيانه – فإن المعنى اللغوي للالتزام ينساق إلى الالتزام الإسلامي وينطبق عليه. ولهذا وصف بأنه التزام إسلامي ولم يوصف بأنه إلزام؛ فالالتزام الإسلامي في الأدب لا يفرض على الأديب فرضًا ولا يقذف في روعه قذفًا، وإنما هو يدور مع الإسلام وجودًا وعدمًا، قوة وضعفًا في نفس الأديب المسلم، فمادام الإسلام متحققًا في الأديب بأركانه ومفهوماته فإن الالتزام يبرز تبعًا لذلك ويتحقق؛ فليس أمرًا آخر خارجًا عن الإسلام ولا طارئًا عليه؛ وإنما هو يجري في نتاج الأديب الملتزم جريان دمه في عروق جسمه، طائعًا مختارًا، موافقًا لفطرة الله التي فطر الناس عليها، فليس مجبرًا على ذلك ولا مكرهًا، وهذه الحقيقة يلمسها الأدباء المسلمون الملتزمون ويدركونها.
ولا يرد على ما تقدم ما وقع من مواقف بعض الخلفاء الراشدين – رضي الله عنهم – كعمر وعثمان من تأديب بعض الشعراء من أمثال الحطيئة وغيره، ممن نحا نحوه .. وذلك لأن الحطيئة وحزبه قد اعتدوا بأشعارهم على أعراض المسلمين ونالوا منها؛ فجاء موقف ولي الأمر منهم من باب رد عاديتهم، وإنصاف المعتدى عليهم تحقيقًا لميزان العدل، وصونًا لأخوة الدين وذبًا عن لحمة الدين، وهذا بمنزلة من اعتدى في كلامه؛ فسبَّ أحدًا من المسلمين أو قذفه، فعندئذ يتعين تأديبه وتعزيره وإيقافه عند حده، وهذا مشتهر معروف في الفقه لدى الفقهاء.
ألا يقود ذلك إلى تعارض بين الإبداع والالتزام؟ بمعنى هل الأديب الملتزم غير مبدع؟
إن الجواب عن هذا السؤال يقودنا إلى الحديث عن شيء من حرية الأديب في ضوء الإسلام، فنقول: إن الإسلام لا يصادر حرية الأديب بقدر ما يهذبها ويسدد طريقها، وذلك حتى تسلك مسلكًا إنسانيًا رفيعًا، فلا تُسقط هذه الحرية الأديب نفسه في نظر مجتمعه، ولا تُلحق الضرر بغيره إذا طاشت حريته، ولم ترشّد، فالتزام الأديب بالإسلام يجعله في مستوى عال من الحرية الإنسانية ذات الأدب الجمّ. والذي يقوده إلى ذلك هو طبعه الإسلامي وقلبه التّقي، وحسّه الإنساني المرهف؛ فرسالة الأديب المسلم ربانية إنسانية، وليست حيوانية أو شهوانية، هذا من ناحية؛ ومن ناحية أخرى فإن الصدق في الأدب كما يراه النقاد هو: أن يصدق الأديب في التعبير عن عاطفته التي أحس بها فعلاً، وإعلان عقيدته التي اعتقدها. ونحن المسلمون نعتقد جميعًا أن جميع ما في هذا الكون الفسيح يسجد لله سجود تسبيح وتنزيه، وأن هذه هي سجيته، وتلك هي فطرته، بحيث إذا أراد تعالى من أحد مخلوقاته شيئًا فإنما يقول له كن فيكون؛ فإذا جاء الأديب الملتزم إلى شيء من تلك المخلوقات فكشف عن هذه الحقيقة وصور وقائعها الصادقة من خلال إيقاعاته الفنية، وعبر إشراقاته البيانية، فإن هذا التصوير الصادق البديع يترك أثرًا بالغًا في النفوس المسلمة التي تؤمن بذلك وتعقتده، بل ويمتد ذلك الأثر إلى الفطر المستقيمة؛ لما تضافر في هذا التصوير من انطباق الجمال الغني على الصدق الواقعي، وهذه ذروة سنام التأثير الفني أو ما يسمى بالإبداع الأدبي الذي يضفيه الالتزام الإسلامي على نتاج الأديب الملتزم فيجعله في مجتمعه عامرًا بالبناء والإبداع المؤثر.
منقول من الكاتب سفيراللغة و الادب (بالنص) للاستفادة
من منتدىحدائق اللغات
¥