تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فقال: لولا أن أبا بصيرٍ أنشدني قبلك لقلت: إنك أشعر الناس! أنت والله أشعر من كل ذات مثانة. قالت: والله ومن كل ذي خصيتين. فقال حسان: أنا والله أشعر منك ومنها. قال: حيث تقول ماذا؟ قال: حيث أقول:

لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى وأسيافنا يقطرن من نجدةٍ دما

ولدنا بني العنقاء وابني محرقٍ فأكرم بنا خالاً وأكرم بذا ابنما

فقال: إنك لشاعر لولا أنك قللت عدد جفانك وفخرت بمن ولدت ولم تفخر بمن ولدك. وفي رواية أخرى: فقال له: إنك قلت " الجفنات " فقللت العدد ولو قلت " الجفان " لكان أكثر. وقلت " يلمعن في الضحى " ولو قلت " يبرقن بالدجى ". لكان أبلغ في المديح لأن الضيف بالليل أكثر طروقاً. وقلت: " يقطرن من نجدة دماً " فدللت على قلة القتل ولو قلت " يجرين " لكان أكثر لانصباب الدم. وفخرت بمن ولدت ولم تفخر بمن ولدك. فقام حسان منكسراً منقطعاً" ()، والواضح أننا هنا أمام ثلاثة مستويات يمثلها ثلاثة شعراء؛ الأعشى والخنساء وحسان، يمثل الأعشى في هذا المستوى مثلا أعلى للجودة في الشعر، وتأتي الخنساء بعده وهي أيضا جيدة لكن بدرجة أقل من النابغة، ويأتي حسان متأخرا عنهما، وقد رفض طه إبراهيم قصة النقد الذي قدمه النابغة إلى حسان بن ثابت تماما معللاً ذلك بمجموعة من التعليلات المختلفة فقال:"ملكة النقد عند الجاهليين هو الذوق الفني المحض. فأما الفكر وما ينبعث عنه من التحليل والاستنباط فذلك شيء غير موجود عندهم، وبعيد كل البعد عن الروح الجاهلي وطبيعة العصر الجاهلي" ()،هذا التعليل الأول لرفضه القصة،أما التعليل الثاني العلمي من وجهة نظره فيقوم على أمرين"فلم يكن الجاهلي يعرف جمع التصحيح وجمع التكسير، وجموع الكثرة وجموع القلة، ولم يكن له ذهن علمي يفرق بين هذه الأشياء كما فرق بينها ذهن الخليل وسيبويه، ومثل هذا النقد لا يصدر إلا عن رجل عرف مصطلحات العلوم، وعرف الفرق بين دلالات الألفاظ، وألم بشيء من المنطق" ()،وقد رفض الكثير من النقاد المحدثين موقف طه إبراهيم هذا على أساس أن الجاهلي هو أعلم بلغته وأقدر على التصرف فيها من غير حاجة إلى معرفة تلك المصطلحات لأن العربية لغته التي يفقه أساليبها من غير أن يعلمها له أمثال الخليل وسيبويه الذين يستشهدون بشعر هذا الجاهلي كحجة على صحة القاعدة التي توصلوا إليها من خلال كلامه ().

أما التعليل الثاني الذي يقدمه الأستاذ طه إبراهيم لرفضه هذه الرواية فهو يقوم على أساس غريب حيث يقول:" ولو أن هذه الروح بيانية لوجدنا أثرها في عصر البعثة يوم تحدى القرآن العرب وأفحمهم إفحاما، فقد لجأوا إلى الطعن عليه طعنا عاما، فقالوا سحر مفترى، وقالوا أساطير الأولين، ولو أن لديهم تلك الروح البيانية لكان من المنتظر أن ينقدوا القرآن على نحوها، و أن يفزعوا إليها في تلك الخصومة العنيفة التي ظلت نيفا وعشرين عاما" ()، إذ يدعى الأستاذ طه إبراهيم أن العربي في العصر الجاهلي لو كانت هذه الملكة النقدية عنده لتمكن من نقد القرآن، ولتمكن من التصدي للقرآن بهذه الملكة النقدية التحليلية ولن أعلق على هذا إلا كما قال الدكتور محمد سلامة في تعليقه على رأي الأستاذ طه إبراهيم:"لا حول ولا قوة إلا بالله، لأن عجزهم هذا ناتج عن إدراك كامل للقرآن الكريم ..... إن نزول القرآن الكريم على هذه الصورة شهادة بأنهم وصلوا في اللغة إلى مستوى عال جدا .... نتساءل ما الذي سينتقدونه في القرآن الكريم المعجزة الإلهية؟ ..... إنهم يعون إعجازه وإبداعه وتأثيره وتكامله، ولكن عنادهم جعلهم لا يسلمون ولم يجدوا في القرآن ما ينقدونه، فاكتفوا بوصفه بالسحر أو كلام الكهان أو الشعر أو أساطير الأولين، تخبط ناتج من عناد ومن وعي بالقرآن في نفس الوقت إعجازه وأثره في النفوس لروعته؛ فوصفوه بالكلام الذي يعرفون تأثيره في نفوسهم" ().

والوقفة الثانية في النقد في العصر الجاهلي تكون في المحاكمة بين علقمة الفحل وامرئ القيس، وهذه القصة رواها ابن قتيبة في الشعر والشعراء في مطلع حديثه عن علقمة فقال:"علقمة بن عبدة هو من بني تميمٍ جاهلي، وهو الذي يقال له علقمة الفحل، وسمي بذلك لأنه احتكم مع امرئ القيس إلى امرأته أم جندب لتحكم بينهما، فقالت: قولا شعراً تصفان فيه الخيل على روى واحد وقافية واحدة، فقال امرؤ القيس:

خَلِيلَّي مُرَّا بِي على أُمِّ جُنْدَبِ لنَقْضِيَ حاجاتِ الفُؤَادِ المُعَذَبِ

وقال علقمة:

ذَهَبْتَ منَ الهجْرَانِ في كُلّ مَذْهَبِ ولم يَكُ حَقّاً كُلُّ هذا التَّجَنُّبِ

ثم أنشداها جميعاً، فقالت لامرىء القيس: علقمة أشعر منك، فقال: وكيف ذاك؟ قالت: لأنك قلت:

فللسَّوْطِ أُلْهُوبٌ ولِلساق درَّةٌ وللزَّجْرِ منه وَقْعُ أَخْرَجَ مُهْذِبِ

فجهدت فرسك بسوطك، ومريته بساقك، وقال علقمة:

فأَدْرَكَهُنَّ ثانِياً من عِنانِهِ يَمُرُّ كمَرِّ الرائِحِ المُتَحَلَّبِ

فأدرك طريدته وهو ثانٍ من عنان فرسه، لم يضربه بسوط، ولا مراه بساقٍ، ولا زجره، قال: ما هو بأشعر منك ولكنك له وامقٌ! فطلقها فخلف عليها علقمة، فسمي لذلك الفحل" ()، وهذه القصة توضح أيضا أن هناك في العصر الجاهلي مستويات للجودة في النصوص الشعرية، على أساس فني نقدي مميز من خلال تحديد نوع من المعايير للمفاضلة بين الشاعرين على أساس وحدة الموضوع والوزن والقافية، وقد رفض كثير من النقاد هذه القصة كما رفضوا سابقتها على أساس أن هذا النقد فني علمي نقدي بشكل واضح، والعرب لم تكن قد بلغت هذه الدرجة بعد ().

انظر

نص اللذة ونص المتعة في التراث النقدي العربي ص:79:82

رسالة ماجستير غير منشروة كلية الآداب جامعة حلوان

ومعذرة فلم تظهر الهوامش في الكتابة ولاأدري السبب

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير