تقول أحلام على لسان بطلتها حياة: ((لا نجد فرقاً بين لعنتها ورحمتها، ولا حاجزاً بين حبها وكراهيتها، ولا مقاييس معروفة لمنطقها، تمنح الخلود لمن تشاء، وتنزل العقاب بمن تشاء.
فمن عساه يحاسبها على جنونها؟ ومن عساه يحسم موقعه منها حباً أو كراهية، إجراماً أو براءة؟)).
ومدينة قسنطينة تعيش وحيدة، ومنغلقة على ذاتها، وسط ثالوثها المقدس " السياسة - الجنس - الدين" الذي يبعد المساءلة.
وأصبح البؤس الثقافي والمادي ظاهرة عامة ومألوفة في وطن يزحف مبكراً نحو شيخوخته.
في الرواية ((نجد انتصارات فردية وهمية. نحن متعبون.
ولقد تحولنا إلى أمة من النمل، تبحث عن قوْتِها.
وماذا يفعل الناس؟ لا شيء، والبعض ينتظر، والبعض يسرق، والبعض الآخر ينتحر.
هذه المدينة قسنطينة، تقدم لك الاختبارات الثلاثة، المبررات نفسها والحجة نفسها)).
وفي رواية ذاكرة الجسد، نجد وطناً ضائعاً، وهدفاً غائباً ومغيّباً، في زمن تفضّل فيه البطاقات على الكفاءات والخبرات وأخلاقيات العمل.
تقول أحلام: ((نحن شعب نصفه مختلّ، لا أحد فينا يدري ما يريد بالضبط، ولا ماذا ينتظر بالتحديد؟
وهذا الإحباط العام يفقدك شهية المبادرة والحلم والتخطيط لأي مشروع، فلا المثقفون سعداء ولا البسطاء ولا الأغنياء. وماذا يمكن أن تفعل بعملك إذا كنت ستنتهي موظفاً يعمل تحت إشراف مدير جاهل؟)).
إن أمّة لا تحترم مواطنيها ومبدعيها، هي أمة تعيش العطالة، وسائرة نحو شيخوختها المبكرة.
في الرواية، نجد شخصيات غريبة وبعيدة عن الواقع والمعقول والتصديق، وفي نفس اللحظة تبدو واقعية وموجودة. ومن الصعب أن نجد بشراً يسلكون مسلكهم في ارتقائهم أو في دونينتهم، ومع ذلك ينتابك شعوراً بأنك ستجدهم الآن أو غداً.
ونجحت الرواية لأنها مثلت الحلم العربي، واعتبرت الإنسان غاية الغايات.
وهي حب حقيقي للوطن الحر، وللأم المتحررة الواثقة من ذاتها، ورفض للسلطة الفردية الاستبدادية ولمخزون التضامن السلبي في الذاكرة الشعبوية.
وتظهر الرواية وجع الجزائر وفرحها. ويتعانق فيها الموت بالحياة، والإحباط بالتفاؤل، والخيال بالتصديق، والرصانة بالتهور، والنمط القديم المتحجّر بالنمط الحديث المتفتح.
والرواية متماسكة في بنائها المعماري والدلالي. وتنامى السرد الروائي على حساب الحوار الدرامي.
لأن أبطال الرواية، عاشوا في أماكن جغرافية متباعدة، وأزمنة متباينة.
وظفت أحلام العلوم الإنسانية لإنجاح منتوجها الروائي الذي صنع على مزاجه أبطالاً أكثر جرأة واقتحاماً من أبطال أحلام في الحياة الواقعية المعاشة.
واستطاعت أحلام مستغانمي من خلال أبطالها، أن تولّف الأنا الفردي بالأنا
الجمعي، والشخصيات الثانوية بالأساسية، والهم الفردي بالهم الوطني والقومي، والنثر الروائي بالشعر.
ورواية ذاكرة الجسد مكتوبة على كل أنواع البحور في أدبيات نزار قباني.
استطاع أبطال الرواية، خالد الرساّم، وحياة الكاتبة الروائية، وزياد أن يعتمدوا حوارات ثقافية / سياسية/ وطنية/ اجتماعية رفيعة المستوى، مما جعل القارئ يحمل في جعبته الفكرية شحنات من العواطف والانفعالات والتوترات، وكأنه يعيش سيكولوجية الحدث والهدف معاً.
ولا ترى البطلة حياة فارقاً بين السلطة القاتلة:
الفرنسّيون قتلوا حسان.
الجزائريون قتلوا سي طاهر.
الإسرائيليون قتلوا زياد.
في الخاتمة، تعتمد حياة، بطلة الرواية المركزية، زوارق الغربة، والصمت.
وتهجر الوطن، حاملة معها ذاكرتها وأحلامها.
إذا كانت البدايات هي التي تحدد النهايات، فإن هذه النهايات هي الأخرى قد تكون بدايات، لأن النص «يتميز بانفتاحه كتابيا ودلاليا» 1
وقد برع الروائيون في صياغة النهايات الأكثر صخبا والأقوى وقعا، ورغم تفاوت وقع هذه النهايات في نفسية متلقيها فهي تخلِّف صداها وتترك بدايات يستمر امتدادها في الوجدان الجماعي.
وتيمة الموت كانت ولا زالت من أكثر النهايات تواترا في الرواية العربية خاصة الواقعية منها، فبما أن الموت تكون في الواقع ذات وقع قوي فالأحرى بها أن تكون في الروايات أكثر النهايات تعبيرا وإدهاشا.
¥