ولعل الأمور زادت جدلا بين الباحثين بعد القصة الشهيرة في رسالة " التوابع والزوابع" لابن شهيد الأندلسي (426 هـ) التي تحدث عن رحلته إلى العالم الأخر (عالم الجان) وجعل في هذا العالم الخفي وادي يسمى وادي "عبقر" تجتمع فيه القرناء، وهو موجود في أرض التوابع والزوابع، التي تَخيّل أنه ينطلق إليها فيعرض شعره ونثره على توابع الشعراء والكتَّاب فيستحسنونه ويجيزونه، ويشهدون له بالجودة؛ ليثبت للآخرين أنه لا يقلّ نبوغاً عمَّن سبقه من أرباب الشعر والأدب، ثم يذكر بعض أسماء قرناء الشعراء الجاهليين كقرين هاجس عمر بن قطين (ت؟) جهنام، و امرئ القيس (ت 30 ق. هـ) لافِظ بن لاحظ، وطرفة بن العبد (ت 60 ق. هـ) عنتر بن العجلان، وعبيد بن الأبرص (ت 25 ق. هـ) هبيد بن الصلادم، وبشر بن أبي خازم (ت 22 ق. هـ) هبيد، والنابغة الذبياني (18 ق. هـ) هاذر بن ماذر، وزهير بن أبي سلمى (ت 13 ق. هـ) زهير، وقيس بن الخطيم (ت 2 ق. هـ) أبو الخطَّار، والأعشى القيسي (ت 7 هـ) مِسْحَل بن أثاثة، والكميت الأسدي (ت 126 هـ) مدرك بن واغم، وبشار بن برد (ت 176 هـ) شنقناق، وأبي نواس (ت 198 هـ) حسين الدَّنَّان، وأبي تمام (ت 231 هـ) عتَّاب بن حبناء، والبحتري (ت 284 هـ) أبو الطبع، وأبي الطيب المتنبي (ت 354 هـ) حارثة بن المُغَلِّس، بل إنه جعل للكتاب شياطين أيضا، فللجاحظ (ت 255 هـ) عُتْبةُ بن أرقم، ولعبد الحميد الكاتب (ت 132 هـ) أبو هُبيرة،ولبديع الزمان (ت 398 هـ) زبدةُ الحقب. (5).
وجاء عن الثعالبي (ت 350هـ) قوله:"وكانت الشعراء تزعم أن الشياطين تلقى على أفواهها الشعر، وتلقنها إياه، وتعينها عليه، وتدعى أن لكل فحل منهم شيطانًا يقول الشعر على لسانه، فمن كان شيطانه أمرد كان شعره أجود، وبلغ من تحقيقهم وتصديقهم بهذا الشأن أن ذكروا لهم أسماء ... إلخ " (6). وجاء عن الأصفهاني (ت 502 هـ) قوله:" ادعى كثير من فحول الشعراء أن له رئيًا يقول الشعر بفيه، وله اسم معروف ... إلخ " (7). وصيغتا " الإدعاء، والزعم" توحيان بالإخبار لا على وجه الحقيقة، ودرجة الصدق فيهما ضعيفة.
غير أن تفاخر الشعراء بقرنائهم من الجن واضح في أدبهم، جلي في أشعارهم، ولعل أول من صرح بذلك هو الأعشى القيسي (ت 7هـ) حين ذكر اسم شيطانه مِسْحَل، حيث يقول:
وما كنت ذا قولٍ ولكن حسبتني === إذا مِسْحلٌ يبري لي القول أنطق
خليلان فيما بيننا من مودةٍ === شريكان جنّي وأنسيّ موقق
وقوله: دعوت خليلي مِسْحلاً ودعوا له=== جُهنّام جدْعاً للهجين المذمّم (8)
وكلمة [لعل] السابقة تنفي فرضية الجزم بأولية الأعشى في التصريح باسم قرينه، فقد يكون من سبقه صرح بذلك، غير أني لم أقع عليه، أو أن ذكره لم يصل إلينا، أو بقي حبيسًا في خزائن الكتب، وأرحام المخطوطات؛ ولذا لم أقطع بذلك وأجزم.
ومن شواهد موضوعنا قول حسان بن ثابت رضي الله عنه (ت 54 هـ):
إذا ما ترعرع منا الغلام === فما إن يقال له من هوه
إذا لم يسد قبل شد الإزار === فذلك فينا الذي لا هوه
ولي صاحب من بني الشَّيصبَان === فطوراُ أقول وطوراً هوه (9)
وهو يؤكد أن له صاحباً غير إنسي، وأن هذا الصاحب ينتسب إلى الشيصبان، وهو اسم للشيطان، و قيل: رئيس عظيم من الجن (10) وقيل: ابن جني من الجن (11) وقيل: قوم من الجن (12) ثم يعترف أنه وشيطانه يتناوبان قول الشعر، وهذا تصريح من شاعر مخضرم،وصحابي جليل، بأن هناك من يساعده في قول الشعر، مما يعطي بُعدًا آخر لهذه القصة.
واستمرارًا لهذا المعتقد ظهر شعراء فحول يعترفون بأن لكل منهم شيطاناً يلقي عليه الشعر ويعينه عليه، كقول جرير (110هـ):
إني ليلقي عليَّ الشعرَ مكتهلٌ === من الشياطين إبليسُ الأباليسِ (13).
وقول الفرزدق (110هـ) حين يمدح شعره من خلال مدحه شيطانه في قصيدته التي مدح بها أسد بن عبد الله القسري، فيقول:
لَتَبلُغَن لأَبي الأَشبالِ مِدحَتُنا === مَن كانَ بِالغَورِ أَو مَروَي خُراسانا
كَأَنَّها الذَهَبُ العِقيانُ حَبّرها === لِسانُ أَشعَرِ أَهلِ الأَرضِ شَيطانا (14)
وقول أبي النجم العجلي (ت 140 هـ):
إني وكل شاعر من البشر === شيطانه أنثى وشيطاني ذكر
فما رأني شاعر إلا استتر === فعل النجوم إذا عاين القمر (15)
ولعل أبيات أعشى سُليم (ت 158 هـ) تصور لنا قصة جنّ الشعراء، يقول:
¥