تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وما كان جنيّ الفرزدق أسْوة === وما كان فيهم مثل فحل المخبّل

وما في الخوافي مثل عمروٍ وشيخه === ولا بعد عمرو شاعرٌ مثل مِسحَل (16)

ومن القصص التي تناقلتها ألسن الرواة، وتلقفتها آذان الناس، وعقلتها عقولهم، وزاد من فرضية التصديق بشياطين الشعر، ما جاء عن جرير بن عبد الله البجلي (ت 51 هـ) قوله:" سافرت في الجاهلية فأقبلت على بعيري ليلة أريد أن أسقيه، فجعلت أريده على أن يتقدم فوالله ما يتقدم، فتقدمت فدنوت من الماء وعقلته، ثم أتيت الماء، فإذا قومٌ مشوهون فقعد، يقول: " فبينا أنا عندهم إذ أتاهم رجل أشدُّ تشويهًا منهم فقالوا: هذا شاعرهم. فقالوا له يا فلان؛ أنشد هذا فإنه ضيف؛ فأنشد:

وَدِّع هُرَيرَةَ إِنَّ الرَكبَ مُرتَحِلُ === وَهَل تُطيقُ وَداعًا أَيُّها الرَجُلُ!

فلا والله ما خرم منها بيتًا واحدًا، حتى انتهى إلى هذا البيت:

تسمعُ للحلْيِ وسواسًا إذا انصرفتْ === كما استعانَ بريحٍ عِشْرِقٌ زَجِلُ

فأعجب به. فقلتُ: من يقول هذه القصيدة؟ قال: أنا. قلتُ: لولا ما تقول لأخبرتك أن أعشى بني ثعلبة أنشدنيها عامًا أول بنجران! قال: فإنك صادق، أنا الذي ألقيتها على لسانه، وأنا مِسْحَل صاحبه، ما ضاع شعرُ شاعرٍ وضعه عند ميمون بن قيس" (17).

وجاء قريب من هذه القصة برواية أخرى على لسان الشاعر نفسه (الأعشى) حيث يقول:"خرجتُ أريدُ قيس بن معد يكرب بحضرموت، فضللتُ في أوائل أرض اليمن؛ لأني لم أكن سلكتُ ذلك الطريق قبلُ، فأصابني مطرٌ، فرميتُ ببصري أطلبُ مكانًا ألجأُ إليه، فوقعتْ عيني على خباء من شعر، فقصدتُ نحوه، وإذا أنا بشيخ على باب الخباء، فسلمتُ عليه، فردَّ علي السلام، وأدخلَ ناقتي خباءً آخر كان بجانب البيت، فحططتُ رحلي وجلستُ، فقال من أنتَ؟ وإلى أين تقصد؟ قلتُ أنا الأعشى، أقصدُ قيس بن معد يكرب. قال: حياك الله! أظنُّك امتدحتَه بشعر؟ قلتُ: نعم، قال: فأنشدنيه، فابتدأتُ مطلع القصيدة:

رَحَلَت سُمَيَّةُ غُدوَةً أَجمالَها === غَضبى عَلَيكَ فَما تَقولُ بَدا لَها

فلما أنشدته هذا المطلع قال: حسبُك! أهذه القصيدة لك؟ قلتُ: نعم، قال: من سميَّة التي تنسُبُ بها؟ قلت: لا أعرفها، وإنما هو اسمٌ أُلقي في روعي؛ فنادى: يا سميَّة اخرجي، وإذا جارية قد خرجتْ، فوقفتْ وقالتْ: ما تريدُ يا أبتِ؟ قال: أنشدي عمكِ قصيدتي التي مدحتُ بها قيس بن معد يكرب، ونسبْتُ بك في أولها، فاندفعتْ تُنشد القصيدة حتى أتت على آخرها لم تخرم منها حرفًا، فلما أتمَّتها قال: انصرفي، ثم قال: هل قلتَ شيئًا غير ذلك؟ قلتُ: نعم، كان بيني وبين ابن عمٍ لي يقال له يزيد بن مسهر، ما يكون بين بني العم، فهجاني وهجوته فأفحمته. قال: ماذا قلتَ فيه؟ قال: قلتُ:

وَدِّع هُرَيرَةَ إِنَّ الرَكبَ مُرتَحِلُ === وَهَل تُطيقُ وَداعًا أَيُّها الرَجُلُ!

فلما أنشدته البيت الأول قال: حسبك! من هريرة هذه التي نسبتَ بها؟ قلتُ: لا أعرفها وسبيلها سبيل التي قبلها؛ فنادى: يا هريرة؛ فإذا جارية قريبة السن من الأولى خرجتْ، فقال: أنشدي عمك قصيدتي التي هجوتُ بها يزيد بن مسهر، فأنشدتها من أولها إلى آخرها لم تخرم منها حرفًا، فَسُقِط في يدي وتحيّرتُ وتغشتني رعدة. فلما رأى ما نزل بي قال: ليُفْرِخْ رَوْعُكَ يا أبا بصير؛ أنا هاجسك مِسْحَل بن أثاثة، الذي ألقى على لسانك الشعر" (18).

واختلاف رواية القصة، ورودها على أكثر من وجه، لايضعفها، أو يقود إلى الطعن فيها وردها، لما قد يتعاورها أثناء تناقل الرواة لها.ومما يستأنس به هنا ما ذكره صاحب الأغاني:" أنَّ عبيدَ بن الأبرص سافر في ركب من بني أسد فبيناهم يسيرون إذا هم بشجاع يتمعك على الرمضاء (أي: يتقلب ويتمرغ) فاتحًا فاه من العطش،وكانت مع عبيد فضلة من ماء،ليس معه ماء غيرها، فنزل فسقاه الشجاع عن آخره حتى روي وانتعش، فأنساب في الرمل، فلما كان من الليل ونام القوم، ندت (مشت) رواحلهم فلم يُرَ لشيء منها أثر، فقام كل واحد يطلب راحلته، فتفرقوا فبينا عبيد كذلك، وقد أيقن بالهلكة والموت إذا هو بهاتف يهتف به:

يا أَيُّها الساري المضِلُّ مذهبُهْ === دونكَ هذا البَكَر منّا فاركبه

وبكْرُكَ الشارد أيضاً فاجنبُهْ === حتى إذا الليلُ تَجَلّى غيهبه

فَحُطّ عنه رحلَه وسَيّبُه === ........................

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير