تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ولو كان لي من الأمر شيء، لأمرتُ مدرسي اللغة العربية أن يجعلوا للناشئة وردا مقررا من كتابات الرافعي (4)، يقرأون فيها سلسبيلا عذبا نميرا من رقيق القول، ورشيق التعبير الفني. ولما شغلتُ أذهانهم بأقوام تصدروا مناصب الأدب العربي، وهم من معرفة هذا الأدب، أقل من القليل، بل أفرغ من صفر.

ولذلك تجد العامة الذين مروا بشيء يسير من الأدب وتراجم أعلامه، خلال دراستهم النظامية في المدارس، يعرفون – ولو بالاسم فحسب – أمثال طه حسين والشابي؛ أما الرافعي وأضرابه من أهل الأدب حقا، والفكر السليم صدقا، فلا يعرفون عن وجودهم شيئا، فضلا عن أن يرفعوا بنتاجهم الأدبي رأسا.

وللرافعي – رحمه الله – أساليب في السخرية والتهكم، تذكرني في بعض المواضع بابن الرومي في سخريته اللاذعة، التي يستغرق بها أهاجيه، مع كثير من الإقذاع والفحش. أما الرافعي، فسخريته سامية رفيعة، لكنها حادة كأنياب القرش، ما تترك من الجسد الذي تخترقه، سوى لحم ممزع، على وضم قاني اللون.

كذا تصورتُ المسكين طاحين (5) عندما ينشب فيه الرافعي أظافر سخريته!

ومن أجمل ما يستعمله الرافعي – رحمه الله – في أسلوبه إيضاحا للفكرة، وتثبيتا لجذورها في نفس القارئ، ضرب الأمثال. فلا تكاد تخلو فكرة مستحدثة يعرضها للقارئ من مثل يجعله بإزائها، كالصورة التي يستند إليها المعلم في شرح نص من نصوص اللغة لتلامذته.

وقد بلغ الرافعي الغاية في هذه الأمثال المضروبة، في ما يسميه نسخة قديمة له من كتاب (كليلة ودمنة)، يرجع إليها بين الفينة والأخرى، فيستخرج منها مثلا، بل أمثالا، يضربها لما هو بصدد نقده من الجامعة، ومديرها، وأستاذ الأدب فيها.

وقد ذكرني هذا النهج المستحدث من النثر الفني الراقي، بما سماه الشيخ أبو فهر (مذكرات عمر بن أبي ربيعة)، ونشر منها مجموعة من المقالات الساحرة. على أن بينهما من الفرق في الأسلوب، ما بين أسلوب ابن المقفع في كتابته، وأساليب العرب في تخاطبهم خلال العهد الإسلامي الأول، الذي كان يعيش فيه عمر بن أبي ربيعة. فللرافعي وأبي فهر – رحمهما الله – من الاقتدار الأدبي، ما يجعلهما يتقمصان أسلوبا قديما يتكلفانه، ثم لا يظهر فيه من أثر التكلف أدنى وصمة.

ومن أمثلة ذلك، أن الرافعي يتكلف السجع في بعض ما يكتبه (6) – وهو نادر إذا قيس بغيره – ثم لا يكون إلا سجعا رائقا، ليس فيه برودة الصنعة، ولا سماجة المعالجة اللفظية.

وهذه علامة الكاتب البليغ، الذي بلغ في الكتابة مبلغ الإتقان، بما هو قريب من الكمال.

...

والرافعي الفيلسوف الحكيم، والأديب الناقد، له في كتابه هذا آراء تستحق أن تتناول بالبحث والتمحيص، وفاقا أو خلافا.

فمن ذلك رأيه في أن تعلم اللغات الأجنبية، وإلقاء العلوم الحديثة بها، أولى من التعريب. يقول رحمه الله (ص 48):

(فإن الزمن الذي تعرب فيه الكتب أو تمصر ثم تطبع وتنشر ثم تقرأ وتدرس لا يذهب باطلا إذا هو ذهب في تعليم لغة أجنبية من لغات العلوم والفنون محققة وتربح معها فضلا كبيرا، وأن تربح إلى لغتها لغة أخرى برمتها وتجمع إليها آدابها وفوائدها، وهذا ما لا يتيسر بعضه إذا مصرنا العربية لتلك الغاية التي زعموا وما يطلبون بها من الكفاية والإصلاح).

وهذه فكرة جديرة بالتأمل، والرافعي لم يزد على أن أشار إليها إشارة باهتة، ولا أدري إن كان قد بسط القول فيها في موضع آخر من كتبه.

ومن ذلك أن له في عمر بن أبي ربيعة رأيا، حريا بالتدبر، والمقارنة بالذي قاله غيره من أهل النقد الأدبي. يقول - رحمه الله – (ص 228):

( .. وإني مع ذلك لا أرى أثقل ولا أبرد ولا أسمج من شعر ابن أبي ربيعة هذا حين يفضح النساء ويقول في شعره: قلت لها وقالت لي، وكان مني كذا وكان منها كذا. وما هو عندي بفن؛ بل خلق سافل وطبع غوي ونفس عاهرة، بل هو فن هجو النساء إذ كان ابن أبي ربيعة لا يحسن مدح رجل ولا هجوه، فسقط من هذه الناحية ليرتفع من الناحية التي تقابلها في النساء، فكأنه ارتفع بقوتين؛ ثم أراد الرجل أن يسير شعر في الأفواه ولا أسير من أخبار النساء وأحاديثهن، فهذا هذا.

الخ).

وتعجبني غضبة الرافعي – رحمه الله – على من يقول في عصره: (لك مذهبك ولي مذهبي، ولك لغتك ولي لغتي)، فيقول لهم (ص13 - 14):

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير