[من الإعجاز اللفظي للقرآن الكريم]
ـ[أبو باسم]ــــــــ[02 May 2008, 09:16 م]ـ
اقتضت حكمة الله سبحانه وتعالى أن يرسل المرسلين إلى هذه البشرية ليهدوهم إلى طريق السعادة, وآتاهم من الآيات ما على مثله آمن البشر, وكانت كل آية تناسب ما يمتاز به العصر.
فمثلا عصر موسى عليه السلام اشتهر بالسحر بين الناس فأعطاه الله معجزة العصا واليد وفلق البحر, كما أنزل عليه التوراة. أما عصر عيسى فقد اشتهر بالطب فكانت آيته أنه يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله, وكذلك آتاه الله الإنجيل.
واشتهرت الأمة في عصر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بالفصاحة والبلاغة والبيان, فأنزل الله عليه القرآن الكريم, ليكون معجزته التي أعجزتهم فيما يتميزون فيه ويبرعون, فشهد كافرهم قبل مؤمنهم أنه ليس من كلام البشر, وأن له لحلاوة, وأن عليه لطلاوة , وأن أعلاه لمثمر, وأن أسفله لمغدق, وأنه ليعلو ولا يعلى عليه.
فكان معجزة خالدة أنارت الأفهام في حياته, وأحيت القلوب بعد وفاته.
وإذا كانت معجزات الأنبياء قد بهرت العقول بالخوارق, فإن القرآن الكريم قد خاطب العقول بالحقائق, فكان بحق معجزة المعجزات, ومشرق الآيات , ذلك لأن معجزات الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم قد انتهت بانتهاء حياتهم, أما معجزة محمد صلى الله عليه وسلم فإنها خالدة إلى يوم القيامة, ينهل من معينها المصلحون, ويستهدي بنورها العاملون المخلصون.
جاء هذا القرآن معجز في ألفاظه, وفي تركيبه وحروفه, وفي بلاغته ونظمه ونسقه. معجزفي كل شيء.
وفي الإعجاز اللفظي كتب الدكتور صالح العايد وفقه الله كتاب (نظرات لغوية في القرآن الكريم) فكان ممتعاً يحمل بين طياته علماً جماً, وفوائد عظيمة. التقطت منها مثالاً واحداً أحببت المشاركة به عسى الله أن ينفع به.
قال حفظه الله عند قوله تعالى:
(ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها حتى إذا جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين)
(من) اسم موصول يصلح للمفرد والمثنى والجمع، ولذلك قال الله تعالى في هذه الآية: (من يستمع إليك) فجعل صلة (من) فعل الواحد فعل الواحد (يستمع)، لكنه قال في سورة يونس: (ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون) فجعل صلة (من) فعل الجماعة (يستمعون).
وسبب الاختلاف في الأسلوب بين الآيتين اختلاف المراد بـ (من)، فآية الأنعام نزلت في نفر قليلين من قريش، هم أبو سفيان والنضر بن الحارث وعتبة وشيبة وأمية وأبي بن خلف، حيث كانوا يستمعون إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يقرأ القرآن ليلاً، فيؤذونه، ويرجمونه، ويمنعونه من الصلاة خوفاً من أن يسمعه أحد يتأثربه وبدعوته، فيدخل في الإسلام، فهم قليلو العدد، فنزلوا منزلة الواحد، فأعيد الضمير على لفظ (من)، أي مفرداً.
أما قوله: (ومنهم من يستمعون إليك) فالمراد بـ (من) جميع الكفار الذين يحدث منهم هذا، فيستمعون إلى القران الكريم، ولا ينتفعون بسماعه، فيكون حجة عليهم، فكأنهم صم لا يعقلون ما يستمعون إليه، فروعيت كثرة المقصودين، فخوطبوا بما يدل على الجماعة.
وقوله تعالى: (ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون)
جعل صلة (من) فعل الواحد (ينظر) مع أن الجملة معطوفة على قوله: (ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون)
وكان السياق اللفظي يقضي بأن يقال: (ينظرون)، لأنهم كثيرون كالمستمعين، لكن يجاب عن ذلك بأن يقال: أن المستمعين لما كانوا محجوجين بما يسمعونه من كتاب الله تعالى كانوا هم الأكثرين في الحجاج، وليس كذلك المنظور إليه، لأن الآيات المرئية بالعين التي أيد بها رسولنا صلى الله على وسلم لم تكن بكثرة آيات القرآن الكريم التي سمعها المشركون ـ ولذا عاد الضمير مفرداً على (من) مع النظر، ومجموعاً مع الاستماع.
وتأمل الآيتين تدرك دلالتهما على تفضيل السمع على البصر حين جعل مع الصمم فقدان العقل، فقال: (أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون)، ولم يجعل مع العمى إلا فقدان النظر، فقال: (أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون)