[معهود العرب في الخطاب: نحو صياغة قواعد التفسير]
ـ[عبد الحميد السراوي]ــــــــ[20 Mar 2008, 05:56 م]ـ
[معهود العرب في الخطاب: نحو صياغة قواعد التفسير]
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، النبي الأمين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين
اقتضت حكمة الله سبحانه إنزال كتابه القرآن الكريم ليكون هاديا للناس بشيرا ونذيرا، قال تعالى: (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم) [1]، ولكي تحقق الهداية ويتحقق مقصود إنزال الكتاب بعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم مبلغا عن الله ومبينا لآياته، فبلغ آيات القرآن وأصلح به أحوال الناس في معاشهم ومعادهم.
والقرآن الكريم لما نزل بلسان العرب في البيان، وعلى تنوع أساليبهم في الخطاب، اقتضى ذلك أن تختلف دلالات ألفاظه في الوضوح والخفاء والإجمال والبيان والإحكام والتشابه والحقيقة والمجاز، فكان من وظيفته صلى الله عليه وسلم بيان ما خفي على الناس مراده، وأبهم معناه، قال تعالى: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما أنزل ‘لهم ولعلهم يتفكرون) [2] لذلك كان الصحابة يلجؤون إليه صلى الله عليه وسلم ليبين لهم ما التبس عليهم أو أبهم من ألفاظ القرآن الكريم، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فسر الظلم بالشرك في قوله تعالى: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون) [3].
وأيد تفسيره بقوله تعالى الوارد في سورة لقمان: (إن الشرك لظلم عظيم) [4]، وقد فسر صلى الله عليه وسلم القوة بالرمي، في قوله سبحانه: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) [5] وقد ورد في صحيح كتب السنة من هذا الشيء الكثير.
وقد صار الصحابة على نهج النبي صلى الله عليه وسلم في بيان وتفسير كلام الله تعالى، حيث اعتمدوا على ما صح عندهم من أقوال النبي صلى الله عليه وسلم المأثورة، ثم على ما شاهدوه من أحوال النزول ووقائعه وقرائن ذلك، حيث صار مجموع ذلك ملكة راسخة يخصصون به العمومات ويقيدون المطلقات.
والذي أهل الصحابة للانفراد والتميز في البيان والتفسير، إضافة إلى الوجوه السابقة، نزول القرآن على معهود العرب في الخطاب وعلى أساليبهم في الاستعمال، فكثيرا ما اعتمد الصحابة في بيان القرآن على شواهد اللغة ومعهود العرب، ويعد ابن عباس من الصحابة الذين تميزوا بالاهتمام باللغة في بيان القرآن، فقد استعان بالشعر العربي، وهو القائل: (الشعر ديوان العرب، فإذا خفي علينا الحرف من القرآن الذي أنزله الله بلغة العرب رجعنا إلى ديوانها فالتمسنا معرفة ذلك منه"، وهو القائل أيضا: "إذا خفي عليكم شيء، فابتغوه في الشعر، فإن الشعر ديوان العرب"، لذلك قال أبو بكر بن الأنباري: "قد جاء عن الصحابة والتابعين كثيرا الاحتجاج على غريب القرآن ومشكله بالشعر".
وإدراكا لأهمية العربية في البيان، ازدادت العناية بها في التفسير، وظهر في التراث الإسلامي ألوانا من المؤلفات تعنى بمعالجة إشكالات وقضايا التفسير انطلاقا من اللغة، إذ اللغة العربية لسان العرب في التخاطب، وأداتهم للتفاهم، فقد ظهرت في القرن الثاني والثالث الهجريين كتب تحمل أسماء معاني القرآن ومشكله، فقد ألف أبو بكر زكرياء يحيى بن زياد الفراء كتاب " معاني القرآن" (ت 207 هـ).
وإضافة إلى كتب معاني القرآن ظهرت أيضا كتب تعنى بمجاز القرآن وغريبه وإعرابه، وتأويل مشكله.
وقد نمت اللغة وتطورت مع هؤلاء الجهابذة الذين وظفوا اللغة في بيان وتفسير القرآن الكريم.
لقد كانت هذه الأعمال الفريدة تعالج إشكالات الفهم والتفسير بالإعتماد على لسان العرب في الخطاب ومعهودها في الإستعمال، وتدل على أن المنهج السليم في التعامل مع نصوص الكتاب العزيز الرجوع إلى اللغة الأصلية التي ورد بها القرآن الكريم، وذلك لضبط الفهم، وحماية النص من التأويل.
وهكذا سلمت الأمة من الزلل في فهم النصوص وتفسيرها دهرا طويلا، محافظة على لسانها، منضبطة برؤى الوحي ومقاصده في التفسير.
لكن أدى انفتاح الأمة على الأجناس والأمم الأخرى إلى ظهور إشكالات في الفهم والبيان نظرا لحداثة الأمم الأعجمية بالإسلام ولافتقارها للسان العربي الذي نزل به القرآن، فاضطرب اللسان واختل البيان.
¥