ـ[محمد عز الدين المعيار]ــــــــ[20 May 2008, 02:55 م]ـ
صفات كمال الإيمان:
في ذلكم السياق المذكور في الحلقة الثانية جاءت آيات صفات كمال الإيمان، دافئة متدفقة، بأسمى المعاني وأعجز المباني مما يجعلها تنفذ إلى أعماق القلوب والنفوس من غير استئذان ويقبلها العقل بغير ارتياب
تبتديء الآيات بصيغة الحصر "إنما" التي يخاطب بها من يعلم ذلك و لا يدفع صحته أو ينزل منزلة العالم به الذي لا ينكره، وظاهر القصر -هنا - أن من لم يتصف بهذه الصفات ليس مومنا، وليس الأمر كذلك لأدلة من الكتاب والسنة، على أن الإيمان لا ينقصه الإخلال ببعض الواجبات ومن ثم فالحصر - هنا - باعتبار كمال الإيمان لا باعتبار أصل الإيمان، كقول القائل:"إنما الشجاع علي " على سبيل المبالغة والادعاء.
يقول الشيخ الطاهر ابن عاشور - في تفسير التحرير والتنوير -:"يؤول هذا إلى معنى:إنما المومنون الكاملو الإيمان، فالتعريف في "إنما المومنون"تعريف الجنس المفيد قصرا ادعائيا على أصحاب هذه الصفات مبالغة، وحرف "ال" فيه هو ما يسمى بالدالة على معنى الكمال "
وصفات الكمال في الآيات، جاءت مرتبة أحسن ترتيب، حيث بدئت بمقام الخوف من الله وخشيته، ثم بالانقياد لتكاليفه، ثم بالتفويض إليه وحده دون سواه، وهي كلها صفات تتعلق بالقلوب والبواطن، ثم أتبعت بإقامة الصلاة، وبذل المال في مرضاة الله، باعتبارهما رأس الطاعات المعتبرة في الظاهر، وأصل كل خير وفلاح ...
ـ[محمد عز الدين المعيار]ــــــــ[29 May 2008, 01:49 ص]ـ
الصفة الأولى من صفات كمال الإيمان: وجل القلوب عند ذكر الله
قال تعالى: {إنما المومنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم}
الوجل: الخوف والفزع، وأكثر استعماله في القلب، ومنه قولهم: حمرة الخجل وصفرة الوجل "
وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه "فرقت " وقرأ أبي بن كعب رضي الله عنه "فزعت " وكلتا القراءتين إنما تحمل على التفسير، ونظير هذه الآيةقوله تعالى: {وبشر المخبثين الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون} -الحج:34 - 35 -
وجاء الوجل كذلك في سورة الحجر في حوار إبراهيم عليه الصلاة والسلام مع ضيفه المكرمين {قال إنا منكم وجلون قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم} الحجر:51 - 52] وفي سورة المونون في حق المومنين المشفقين من خشية ربهم {والذين يوتون ما أتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون} المومنون:60] وليس للوجل بعد هذا ذكر في القرآن الكريم
وفي سنن الترمذي عن أم المومنين عائشة رضي الله عنها أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية الأخيرة فقالت:أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال: لا،بنت الصديق ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون ألا يقبل منهم {أولئك يسار عون في الخيرات} المومنون:61]
و وصفت أم الدرداء الوجل عند ذكر الله وصفا حيا معبرا عندما قالت لمن سألها عن حقيقته:"الوجل في القلب كاحتراق السعفة أما تجد له قشعريرة؟ قال: بلى، قالت: فادع الله فإن الدعاء يستجاب عند ذاك.
والسعف جريد النخل يسمع له عند احتراقه نشيش يشبه شعور الوجل يلم بالقلب من ذكر الله فيهتز له ويخفق كما قال الشاعر:
وإني لتعروني لذكراك هزة * * * كما انتفض العصفور بلله القطر
والقلوب تفزع عند ذكر الله استعظاما لجلاله وعظيم سلطانه ولكل معاني أسمائه تعالى الحسنى وصفاته العلى.
و لا تعارض بين الوجل - هنا - وبين الاطمئنان المذكور في قوله تعالى: {الذين آمنوا و تطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب} الرعد:28]
قال الإمام القشيري في لطائف الإشارات: {يقال: سنة الحق سبحانه مع أهل العرفان أن يرددهمبين كشف جلال ولطف جمال، فإذا كاشفهم بجلاله وجلت قلوبهم، و إذا لاطفهم بجماله سكنت قلوبهم "
وهذان المعنيان المفترقان في هاتين الآيتين، قد اجتمعا في آية واحدة هي قوله تعالى: {الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله} الآية ... الزمر:23]
وكذا القلوب بذكركم * * * بعد المخافة تطمئن
والخشية تتضمن على الدوام الرجاء، ولولا ذلك لكانت قنوطا {إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون} يوسف: 87] كما أن الرجاء يستلزم الخوف ولولا ذلك لكان أمنا {فلا يامن مكر الله إلا القوم الخاسرون} الأعراف:99] وهذه حال كمل الإيمان العارفين بالله {إنما يخشى الله العلماء} فاطر:21]
وحمل الوجل في الآية على الخوف منه تعالى كلما ذكر أبلغ في المدح و أنسب للموقف الذي جاءت الآية في سياقه من حمله على شئ معين بالذات، كم ا أن الذكر في عمقه هو ذكر الله وتذكره في كل المواقف والمجالات، ومراقبته تعالى في جميع الأحوال والظروف في السر والعلن وفي الحركات والسكنات.