تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

على الجانب الآخر، نرى كمّاً هائلاً من الأحاديث الضعيفة – وحتى الموضوعة – التي تمجّد الفقر وتروج له، وتناقض ما صح من أحاديث، وما ثبت من مقاصد، وللأسف فقد حدث التساهل مع هذه الأحاديث أحياناً – لأنها اعتبرت من احاديث فضائل الأعمال، التي يتساهل في الضعيف منها، وأحياناً للسبب ذاته التي تم اختراعها من أجله: تمجيد الفقر باعتبار أن هذا التمجيد سيسهل التعايش مع واقع صعب. ولهذا سنرى امتلاء سلسلة الأحاديث الضعيفة بأحاديث من هذا النوع: (الفقر أزين على خد المؤمن من العذار على خد الفرس!) و (تحفة المؤمن في الدنيا الفقر!) و (الفقر شين عند الناس وزين عند الله يوم القيامة!). وغيرها مما لا يصح ولا يعقل من المفاهيم – وقد تراكم ذلك حتى وصل ذروته عند الإمام الغزالي الذي نجده قد 'أرشف' لتمجيد الفقر، وكتب في فضل الفقر وفي مدحه في 'الإحياء' .. حيث اعتبر أن الفقر هو من 'المنجيات' واحتوى على عبارات مثل 'إذا رأيتم الفقير فقولوا مرحباً بشعار الصالحين' – و 'الفقر بركة والغنى شؤم'! وينقل الامام الغزالي ' أن الجنيد وبعض الخواص والأكثرون ذهبوا إلى تفضيل الفقر فقال ابن عطاء: الغني الشاكر القائم بحقه أفضل من الفقير الصابر – ويقال إن الجنيد دعا على ابن عطاء لمخالفته إياه في هذا فأصابته محنة'!، إلى أن يصل بحسم (لم يسترب من قرأ الأخبار والآثار في تفضيل الفقر).

إن ثقافة' تمجيد الفقر' هذه التي خلفت لنا إرثاً طويلاً (و حياً) من مبالغات كهذه، لا يمكن أن تعزل عن سياقها الذي أنشأها، فالإمام الغزالي وغيره، لم يكونوا هنا (سبباً) بقدر ما كانوا مرآة عرضت لحال مجتمع فضل التعايش مع الأمر الواقع، والقبول بالانحطاط – وكرس لذلك نصوصاً دينية تساعده على تقبل الأمر، بدلاً من العمل على تغيير الواقع وتجاوزه ..

و الذي لا شك فيه ان ثقافة كهذه، تنتج أخلاقا سلبيا او محايدة، ترى في العالم مكانا لا يستحق الالتفات اليه، و لا حتى من أجل الاصلاح .. وهي الاخلاق المناقضة تماما للثقافة الاولى التي انتجت جيلا كان مشبعا بروح 'فتح العالم' بدلا من الزهد فيه .. وكان من الواضح مع سيادة ثقافة 'تمجيد الفقر' ان ذلك يعكس تخلي المسلمين تدريجيا عن دورهم الريادي في قيادة العالم ..

و هذه الثقافة ليست تراثا عابرا مر و انقضى- انها ليست في بطون الكتب والمراجع فحسب، بل قائمة في عقل جمعي لا يزال يتغذى منها عبر المنابر ودروس الوعظ التي قد لا يلتفت خطباؤها كثيرا لسلبية هذا النوع من الاخلاق بل و قد يعتبرونها أيضا من فضائل الاعمال ..

و الذي لا أشك فيه ان عمر بن الخطاب لو اطلع على هذه الثقافة و لو رأى مروجيها لتعامل معهم بدرته الشهيرة .. و لقال لهم كما قال لسواهم:أمتّم علينا ديننا .. !

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير