لقد بدأت المفردة القرآنية تصبح محط اهتمام متزايد وتستحوذ على عناية مختلف المناهج الحديثة في دراسة القرآن الكريم، منذ بدأ الالتفات إليها في الأربعينيات من القرن المنصرم، لقدرتها على تحليل كليَّاني للخطاب القرآني؛ وقد حدا هذا الأمر بمعظم الباحثين لاستثمارها واتخاذها أساساً لدراسة الخطاب القرآني تحت تأثير بواعثهم المختلفة، وقد أثبتت المناهج الحديثة ـ في معظمها ـ نجاعتها في الكشف عن وجوه للخطاب ربما ليس بمقدور غيرها الكشف عنها، وأبان بعضها عن قدرة فائقة في تحليل الخطاب القرآني عبر مفرداته، خصوصاً تلك المناهج التي استفادت من المعرفة الغربية الحديثة وجمعت معها المعرفة التراثية مع وعيها لخصائص نص منتسب إلى الإله المتعالي المفارق للوضع الإنساني.
وبالرغم من ذلك فإن الدراسات النظرية والتقعيدية لدلالة المفردة القرآنية، ماتزال قليلة إلى حدٍ لا يناسب تكاثر الاهتمام بها، فمعظم الدراسات لم تناقش بشكل جيد المشكلات الثاوية في المعجم العربي وصلتها بتأويل القرآن الكريم وتفسيره، إن لم نقل إنها كانت تبسيطية إلى أقصى الحدود، كما أنها تفتقر عموماً لرؤى نظرية واضحة فيما يتصل بالتحولات الدلالية الطارئة على المفردة القرآنية في السياق النصي.
وفيما يتصل بتحليل الخطاب القرآني فإن العلاقة الواهية بالتراث تارةً والثملة منه تسليماً ونهلاً تارة أخرى، قللت من إمكانية الاستفادة منه لتطوير مناهج جديدة خاصة بالقرآن الكريم، ولو خلال رؤية نقدية للتراث نفسه، كذلك الأمر بالنسبة للمعرفة الغربية الحديثة، فالمؤمنون بجدواها إما رافضون كلياً للتراث الإسلامي، أو يقيمون معه علاقة باهتة للغاية كأنها نوع من "فض العتب"، وغير المؤمنين بجدواها إما رافضون لها كلياً، أو متعلقون بأهدابها التي لا تُسمن من جوع.
أضف إلى ذلك أن ثمة مسافة تفصل بين الادعاءات النظرية التي ذكرها أصحاب الدراسات (على قلتها) والتطبيق المقام عليها عموماً، وهي مسألة ترجع بنظرنا إلى عدم الاهتمام الجاد بالمسألة النظرية لدراسة المفردة القرآنية، بقدر الاهتمام بالنتائج التطبيقية التي ستتوصل إليها الدراسة، وهذا بحد ذاته لا يفسره إلا الباعث الأيديولوجي الذي يختفي وراء أكثر الدراسات الحديثة على اختلاف أصحابها وتنوعهم أيديولوجياً.
الدراسات القرآنية الحديثة ستبقى مشغولة، إلى أمد غير قريب، بمسألة تاريخية القرآن والتحليل الكلي له، وكلا الموضوعين في الواقع هما تعبير عن مركز تحديات الإسلام في معركته مع الحداثة، فالعلمانية (بمنظورها الفلسفي) تقتضي أنسنة كل شيء ووضعنته، والتعامل مع العصر يحتاج إلى مفاهيم وتأويلات جديدة سيكون التفسير الكلي بابها، والمفردة القرآنية أداتها. وجديد الجديد فيما يخص الدراسات الكلية الغربية والعربية الحداثية للقرآن أنها بدأت تقرأ القرآن قراءة متربصة بحثاً عن الإرهاب (مثل دراسة كريستوف لوكسمبورغ)، أو محاربة للتصورات الدينية المقاومة تحت مسمى الإرهاب (مثل الدراسة الإسرائيلية التربوية "قرآن نت: مشروع اجتماعي")، وهذا مؤشر خطير على اتجاه لتفسير القرآن بالشيء ونقيضه لأغراض سياسية بحتة، وهو اتجاه يقتات على الدراسات العلمية للقرآن ويزرع بذور الانحياز فيها.
* كاتب سوري
ـ[عبدالرحمن الشهري]ــــــــ[02 Aug 2008, 04:58 م]ـ
مقال جيد للأستاذ عبدالرحمن الحاج أشكر أخي أبا بيان على تفضله بنقله هنا، وفيه كثير من الإشارات التي يقرؤها المتابع للإنتاج المطبوع من الدراسات والأبحاث العربية والمترجمة حول القرآن الكريم. وهي تشير بوضوح إلى إدراك المسلمين وغير المسلمين لأهمية القرآن ومحوريته في حياة المسلمين.
ولذلك تجد المخلصين الصادقين من المسلمين يسعون للنهوض بالأمة من خلال القرآن بإعادة الناس إليه ودعوتهم للعمل به وتدبره وتطوير دراساته وتميز حملته وكثرتهم، وجعل القرآن واقعاً يتمثله المسلمون في حياتهم.
كما تجد المخلصين من الأعداء ينطلقون من القرآن للطعن فيه وإثارة الشبهات حوله وتوليد المزاعم والشبهات والشكوك حوله بكل وسيلة متاحة.
وهذا ميدانٌ واسعٌُ للعمل والجهاد ينبغي على طلبة العلم المخلصين التصدي للتميز فيه وبذل الجهود المتواصلة لخدمة القرآن في كل جوانبه والتخصص في دقائق تخصصاته للإبداع والتميز فيها وكفاية الأمة شأنها حتى نكون على مستوى الأمل والطموح الذي تطمح الأمة إليه. ويا حبذا هذا الجهاد في هذا الميدان، وبحسبك: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه). ولا بد من استغلال الفرص المتاحة في العالم الإسلامي اليوم للنهوض بالدراسات القرآنية في الجامعات ومراكز الأبحاث والمؤسسات الإعلامية، وصياغة خطط النهوض على أسس علمية مدروسة متكاملة حتى تتحقق الأهداف الرامية لأن تحيا الأمة بالقرآن حياة طيبة كما يحب ربنا ويرضى، نسأل الله أن ييسر تحقيق هذه الطموحات بفضله وتوفيقه.