تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ويدعم الدكتور إحسان عباس هذا الرأي الذي يراه في انحياز الجاحظ نحو الشكل مبررا ذلك بأمرين يذكرهما بقوله"ثم وقف الجاحظ من نظريته في الشكل موقفين آخرين أحدهما يؤيدها والثاني ينقضها، فأما الأول فهو إصراره على أن الشعر لا يترجم واستعصاؤه على الترجمة إنما هو سر من أسرار الشكل، وأما الثاني فهو قوله إن هناك معاني لا يمكن أن تسرق كوصف عنترة للذباب " ().

ولست أدري في الحقيقة كيف أقام الدكتور إحسان هذه الحجج على الجاحظ متهما إياه بأنه من أنصار الشكل على حساب المعني، فقد كان هذا الرأي الذي قدمه الجاحظ في معرض حديثه عن سرقات الشعراء من شعر بعضهم، وهو الذي يؤكد فيه على أن الشعراء يأخذون من بعضهم في المعاني ويصوغون شعرهم، قال الجاحظ:"ولا يعلم في الأرض شاعر تَقَدَّمَ في تشبيهٍ مُصيبٍ تامّ، وفي معنًى غريبٍ عجيب، أو في معنًى شريف كريم، أو في بديعِ مُخترع، إلاّ وكلُّ مَنْ جاءَ من الشُعَراءِ منْ بَعدِه أو معه، إنْ هو لم يعدُ على لفظه فيسرقَ بعضه أو يدعِيَه بأسْره، فإنّه لا يَدعُ أن يستعينَ بالمعنى، ويجعَلَ نفسه شريكاً فيه؛ كالمعنى الذي تتنازعُه الشعراءُ فتختلف ألفاظهم، وأعاريضُ أشعارهِمْ، ولا يكون أحدٌ منهم أحقَّ بذلك المعنى من صاحبه، أو لعلّه أن يجحد أنّه سمع بذلك المعنى قَطُّ، وقال إنَّه خطرَ على بالي من غير سماع، كما خطَر على بال الأوَّل، هذا إذا قرَّعُوه به، إلاَّ ما كان من عنترة في صفةِ الذباب؛ فإنه وصفَه فأجاد صفته فتحامى معناهُ جميعُ الشعراء فلم يعرضْ له أحدٌ منهم، ولقد عَرضَ له بعضُ المحدَثين ممن كان يحسِّنُ القَول، فبلغ من استكراهه لذلك المعنى، ومن اضطرابه فيه، أنّه صار دليلاً على سوء طبعه في الشعر، قال عنترة:

جادَتْ عليها كلُّ عينٍ ثَرَّةٍ فَتَركْنَ كلَّ حَدِيقةٍ كالدِّرْهم

فترى الذُّبابَ بها يغنِّي وحْدَه هَزِجاً كفِعْل الشَّارِبِ المترنِّم

غَرداً يُحكُّ ذِراعَه بذِرَاعهِ فِعْلَ المكبِّ على الزِّنَادِ الأجذم" ()

وقد علق الدكتور إحسان على ذلك بقوله: " فقوله إنه لا يسرق دليل على أن "السر في المعنى " قبل اللفظ، ولكن الجاحظ لم ينتبه لهذا التناقض" ().وفي تعليقه على هذه الأبيات قال الجاحظ: فإنه وصفَه فأجاد صفته فتحامى معناهُ جميعُ الشعراء فلم يعرضْ له أحدٌ منهم، ولم يمنع أحد هؤلاء الشعراء من التعرض لهذا المعنى إلا جودة صياغة عنترة للمعنى وحسنها، لكن الجاحظ قال في مكان أخر وتعليقا على الأبيات نفسها" فلو أنَّ امرأ القَيس عَرضَ في هذا المعنى لعنترة لافتَضَح" ()، وهي عبارة تعني السبق في وصف الذباب بهذه الصفات التي لا يعرف الناس أحد استخدمها قبل عنترة، وقد بلغ فيها من الجودة العالية في الصياغة، وهو أمر جعل كثيرًا من الشعراء يتحاشون الدخول في هذا المعنى من تلقاء أنفسهم لقناعتهم الداخلية بصعوبة تجاوز عنترة في صياغته هذه الصورة الخيالية الجديدة على الطبيعة الإنسانية التي تشمئز من الذباب، وضربه المثل بالاستحالة في التقليد من قبل امرئ القيس هو لبيان البراعة العالية التي وصل إليها عنترة في أداء هذا المعنى على الرغم من الصورة المقززة للنفس من الذباب.

ونجد أن أرسطو قد عرض لهذه الفكرة من قبل حيث قال:"فإننا نلتذ بالنظر إلى الصور الدقيقة البالغة للأشياء التي نتألم لرؤيتها، كأشكال الحيوانات الدنيئة والجثث الميتة .... فإن اللذة لا تكون ناشئة عن المحاكاة بل عن الإتمام أو عن اللون أو عن سبب أخر" () فالمحاكاة أو التقليد التي تحمل المعنى ليست هي سبب اللذة عنده لكن الإتمام واللون وهو ما يمكن أن نسميه الصياغة والتعبير أو تمام المحاكاة على أساس أن المحاكاة هي عنصر التفضيل عند حازم القرطاجني، ولم يقل أحد أن أرسطو على الرغم من هذا القول شكلاني؛ فالسبق الذي جاء به عنترة جعل كل من يحاول تمثل هذه الصورة لابد أن يكون متأثرا به في شعره، وليس ذلك من قبيل المعاني المتداولة بين الشعراء، ومن ثم لا يجوز فيها ما يجوز في غيرها من المعاني.

بل إن الجاحظ قد أثبت الكثير من الشعر الذي يذكر فيه الذباب لكنه لم يبلغ من الجودة وحسن الصياغة في تغيير الصورة المعروفة عنه مبلغ عنترة، ومن هذا "قول رجل يهجو هلالَ بن عبد الملك الهُنَائيَّ:

ألا مَن يَشْتري منِّي هِلالاً مَوَدَّتَه وخُلَّتَه بفَلْسِ

وأَبرأ للذي يبتاعُ مِنِّي هلالاً مِن خصالٍ فيه خَمْسِ

فمنهنَّ النغانِغُ والمكاوي وآثارُ الجروحِ وأكْلُ ضرْسِ

ومن أخْذِ الذباب بإصبعَيهِ وإن كانَ الذُّبابُ برأسِ جَعْسِ ()

وقول أرطأة بن سُهَيَّة، لزُميل بن أمِّ دينار:

أزميل إنِّي إن أكن لك جازياً أَعكِرْ عليكَ وإن ترُحْ لا تسْبقِ

إنِّي امروٌ تجد الرِّجال عدَاوتي وجْدَ الرِّكاب مَن الذُّبابِ الأزْرق

وإذا مرَّ بك الشّّعر الذي يصلح للمثل وللحفظ، فَلاَ تنْسَ حظَّك من حِفظه ()

والجاحظ يلحق كلامه عن المعنى وشرفه وأهميته في الشعر بالكلام عن اللفظ، وهي نتيجة طبيعية كانت لازمة فبعد حديثه عن المعنى كان لابد أن يتبعه بالحديث عن اللفظ يقول:"ومتى كان اللفظ أيضاً كريماً في نفسه، متخيَّراً من جنسه، وكان سليماً من الفُضول، بريئاً من التعقيد، حُبِّب إلى النُّفوس، واتَّصل بالأذهان، والتحَمَ بالعقول، وهشَّت إليه الأسماع، وارتاحت له القلوب، وخفَّ على ألسُن الرُّواة، وشاع في الآفاق ذِكرُه، وعظُم في الناس خَطَره، وصار ذلك مادَّةً للعالِم الرئيس، ورياضة للمتعلّم الريِّض" ()، فالجاحظ هنا يولي المتلقي الأهمية الكبرى من الحديث وهو ما جعل الدكتورة عايدة عبد الحافظ تحاول إبراز الجمال الذي قال الجاحظ إنه قد يكون في السخيف في بعض المواضع، فتقول:"ويحاول الجاحظ أن يبحث عما يمتع المتلقي، فيجد أنه ربما احتاج إلى السخيف في بعض المواضع فوجده يمتع أكثر من إمتاع الجزل الفخم، ووجد أنه كلما انحرف الكاتب عن الشيء الوسط (العادي والمألوف كان هذا أمتع للمتلقي (وقد عرف المحدثون الأسلوب بأنه انحراف عن المعيار) ويجعل الجاحظ الكرب كل الكرب في الشعر الوسط والغناء الوسط وإنما مدار متعة المتلقي في الحار جدا والبارد جدا " ()

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير