"لقد أصبح النقد علم العلوم، كما كانت الفلسفة في غابر الزمان، وأصبح الناقد الأدبي مطالبا بتوجيه اهتماماته لا إلى النصوص الأدبية فقط، بل إلى جميع مظاهر الوجود, إلى الحد الذي دعا واحدا من مؤرخي البنيوية، هو جوناثان كلر إلى القول: "بأن النظرية الأدبية ليست معنية بالدراسات الأدبية فقط, بل إلى مجموعة من الكتابات التي تتناول كل ما تقع عليه الشمس" (8).
والعجيب في هذا النقد أنه أتى لتطويع النص الأدبي أو الديني, من أجل تطبيق المفاهيم والمناهج الحداثية أو ما بعدها, بعد أن كان قيمة النقد في استلهامه قضاياه وأفكاره من داخل النص الأدبي، فالناقد قديما كان وسيطا بين النص والقارئ.
"فالفكر الغربي يقوم على لغة النقد، والنقد الأدبي هو نقد مرتبط بإيدبولوجيا أو بنسق عقائدي, كما أن العمل الأدبي بالضرورة يكشف عن فلسفة صاحبه وتصوره لعالمه، وكما يقول العروي: فإن ثلاثة أرباع النقد الإيديولوجي عندنا يظهر في شكل نقد أدبي" (9).
يتوجب علينا بعد الحديث عن النقد الأدبي, أن نتحدث لزاما عن الفكر الذي نشأفيه, والفكر الغربي المعاصر قام على أنقاض الحداثة، وإحدى دعائم الحداثة النقد, فدعونا نتلمس بأيدينا على تعريف أو مقاربة للحداثة -إن استطعنا-.
لعل أفضل من كتب في مفهوم الحداثة -أو حاول تقريبها لأن الحداثة لا تؤمن بمبدأ الثبات الذي تتضمنه التعاريف والحدود- الدكتور عبد الرحمن القعود في كتابه "الإيهام والاضطراب في شعر الحداثة" فقد قدّّم بمقدمة نفيسة في هذا الجانب، ومهمتك أيها القارئ النجيب هو الربط والتركيب لعلاقة الحداثة بإشكالية المصطلح النقدي.
يقول الدكتور عبد الرحمن القعود: ("فالحداثة هي انفجار للوعي في أعقاب انفجار معرفي" وهذا التعريف يقرب المفهوم ولا يحدده, فالحداثة كما وصفها أحد كبار الحداثيين العرب كمال أبو ديب "ظاهرة الالتباس: ظاهرة التضاد الداخلي فلا نعجب من كثرة خصائصها", والذي يهمنا فيها ذكر سمتين من سمات الحداثة, لنعرف مدى أثرها على النقد ومصطلحه.
أولا: تناقضها وغموضها
ولكن لم هذا الالتباس والاضطراب والتناقض والغموض في الحداثة؟ ربما يمكن ارجاعه إلى جغرافية الحداثة المترامية الأطراف، إلى حد أن مالكم برادبري وصف الحداثة بأنها: "فن المدن" فهي إذن نتاج متعدد اللغات، متعدد الأصول، متنوع الجذور, وهذا التعدد والتنوع وعدم التجانس أسهم في إظهار الحداثة على ماهي عليه من تعقد واضطراب متناقض واختلاف, جعل بعضهم يتحدث عن حداثات لا حداثة واحدة, ولهذا قال برادبري وماكفارلن عن أدب الكتاب المحدثين الذين عاشوا الفترة الواقعة ما بين التسعينيات من القرن التاسع عشر والثلاثينيات من هذا القرن "إنه ليس سوى توليف بين عناصر غير مترابطة".
وإلى جانب هذا نجد خلطا آخر بين المتناقضات "يتمثل في المزج بين العقل واللاعقل، والعقل والعاطفة, والذاتية والموضوعية, وهو خلط كما يقول الكاتبان ينسف أنظمة الفكر، ويقلب قواعد اللغة, كما ينسف العلاقات بين الكلمات, وبين الكلمات والأشياء، ويفتح أبواب التعبير أمام غير المترابط وغير المنطقي".
وهذه العناصر المتنافرة في الحداثة هي مما يقف وراء إشكالية المصطلح "إن غموض أفق المرحلة يترك أثره على كل شيء بما في ذلك الوعي ونمط الكتابة وأشكالها المكسرة ....... الملتبسة".
ثانيا: أنها حداثة اللحظة
يقول الحداثي الأول كما يصفه البعض بودلير "أعني بالحداثة ما هو عابر سريع الزوال",وهو يطابق بين الحديث والموضة، فهذا العبور السريع, وهذه الموضة المطابقة للحديث ليست سوى اللحظة التي لا تستقر ولا تدوم،وهذا -فيما يبدو- أخطر أمر في حركة الحداثة، فكل شيء داخل هذه الحركة غير قادر على التقاط أنفاسه، أي غير قادر على التشكل, بسبب هذه العجلة المتسارعة (اللحظة) في الحداثة, يذكرنا بذلك الكائن الأسطوري العجيب "بروتيوس" الذي تروي الأوديسة قصته: "إنه كائن لا يستقر على حال واحدة، فهو طورا أسدا, وطورا ثعبان, وطورا إنسان .. الخ".
فحداثة اللحظة هي حداثة التناسل والتسارع في المفهوم الغالب، وإذا توقفت الحداثة عن التناسل فقد فقدت إحدى أهم سماتها, ولأن الصيرورة أو التحول الدائم مفهوم رئيسي من مفاهيم الحداثة بلغت فيه حد الهوس, كانت الحداثة في نظر هابر ماس "مشروعا لم يكتمل".
¥