تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

قد يسهل علينا إدراك حقيقة الذات المبدعة إذا اعتبرنا الغياب هو ذلك العمق السحيق الذي يشكل جملة الامتدادات التي تتشجر الذات من خلالها لتبلغ مجموع السيمات التي عددناها في الكتابة الرياضية التي استعرناها لخط التعريف السابق، والتي تكون في اجتماعها حقيقة الفنان النفسية والاجتماعية، والفكرية، والسياسية، والمعتقداتية .. وما شئنا من امتدادات أخرى.

فالسطح الذي يعرضه علينا النص، سطح أملس بارد، خال من الامتداد، لأنه أديم مسطح، ورقي .. أو هو أشبه شيء بوجه المستنقع الراكد الذي تحجب خضرة مائه الملوثة عمقه، وتستر الكائنات الدقيقة التي تموج بالحياة في وسطه. فإذا استطعنا أن نتخطى الوجه الأملس البارد، أن نغوص قليلا فيه، فقد أطللنا ساعتها على عمق الغياب الذي يشكل حقيقة الذات المبدعة.

إننا نزعم الساعة أن أديم النص، يحتفظ بآثار دقيقة، متشابكة، معقدة، إذا تولتها القراءة بالفحص، وجدت فيها ما يفصح عن التوترات التي أنشأت النص، وأملت هندسته، وحددت مقصدياته، وجعلته منفتحا على القراءات المتعددة. هذه الآثار عديدة لا يمكن حصرها في عينات مذكورة محدودة، ولكن عبقرية القراءة، وكفاءة القارئ يوقفانه على الخاص منها، الذي في إمكانه الإفصاح عن حقيقة النص في جملته.

ولنا أن نبدأ بمثال بسيط يوضح ما نرمي إليه من أمر الآثار، وما نرجوه من فاعليتها في الإنباء عن التوترات التي تسكن النص، وتفتح نافذة الغياب فيه. قال "يوسف غضوب":

نثر الخريف على الثرى أوراقه فتناثرت كتناثر العبرات.

كان النقد القديم لا يجد في مثل هذا الشعر سوى ذلك الروح الرومنسي الذي يستعير عناصر الطبيعة للتعبير عما يختلج في أعماق النفس من حزن وأسى. وتلك حقيقة لا يمكن نكرانها أو تجاهلها، بل هي صلب المعنى الذي من أجله أنشئ البيت الشعري. بيد أن سطح البيت يحتفظ بآثار، تعطي لهذه الحالة النفسية توترا يسلك في ذات الشاعر سبلا لا يمليها الوعي المبدع أصالة، وإنما هي تسربات تنطلق من التشجر الذي تحدثنا عنه من قبل.

وإذا فككنا البيت إلى مكوناته الصوتية، أمكننا إحصاء الآثار التالية: (حرف الراء:7،حرف الثاء: حرف النون: حرف التاء:3) ومن الملفت للانتباه أن الهيمنة الصوتية في هذا البيت لحرف الراء، ثم الثاء، ثم النون والتاء. والراء حرف تكراري ما دخل في كلمة إلا وأكسبها سمة المعاودة والاستمرار، وكأنه لا يكتفي بحركة واحدة واثقة، وإنما هو في حاجة إلى المعاودة المستمرة حتى يتأكد من فعله. وكأن الباعث على ترداد هذا الحرف في هذا البيت عامل لا يتصل بالمعنى الذي ابتغاه الشاعر أصالة، وإنما هو تسرب يأتيه من ناحية أخرى. قد يعلمها ولكنها ليست حاضرة في خلده أثناء العملية الإبداعية. إنه صوت يجعل الشاعر وكأنه يحاول لملمة شعثه، يكرر فعلته، وكأن ما يتصل به من شؤون لا يقع في متناول يده، منظما جاهزا، وإنما هو أشتات متفرقات.

والذي يحملنا على هذا الاعتقاد أن الصوت الثاني في مسألة التوتر، هو حرف الثاء. وهو من الحروف الرخوة المهموسة الضعيفة التي يجري فيها الصوت ويتفشى وينتشر مبعثرا على طرف اللسان. وإذا جمعنا بين المعاني الحافة التي يشيعها حرف الراء- الذي هو في اللغات القديمة بمعنى الرأس، والذي قال عند "الخليل بن أحمد الفراهيدي" أنه الرجل الضعيف، وأنه زبد البحر أيضا- (6) وما نستشفه من حرف الثاء من معاني البعثرة والانتشار. أمكننا إلحاق هذه الصفات بالمبدع، لنرى فيه الرجل الكهل الذي بدأت وطأة الحياة تفعل فعلها فيه فكرا وجسدا.

وما مبعث الحزن الذي يلون خلفية البيت إلا من هذا الاجتماع الذي ترك من آثاره الصوتية ما يجعل البيت رثاء للذات على الطريقة الرومنسية المعهودة. أما تساوي الشدة والرخاوة بين حرفي النون و التاء، وتساويهما الترددي يكشف عن محاولة يائسة للاعتدال والمقاومة. وكأن نفس الشاعر تأبى أن تستكين لما يلم بما من ضعف وشتات. إنها حركة مقاومة داخلية تحاول أن تطل محتشمة من خلال أثري النون والتاء. ومن عبقرية اللغة أنها تضيف من دلالتها مقاصد أخرى لا يفطن لها المبدع، تحاول القراءة إعادة ربطها في سلك المعنى الواحد. وإذا تأملنا كلمة "العبرات" أوحى لنا جمعها بالتكرر والاستمرارية والاسترسال لوجود حرف الراء فيها أولا، ولمعنى العبور ثانيا. أنها تدر دوما كما تدر البقرة الحلوب .. والتاء عند "الخليل" هي فعلا البقرة التي تحلب دائما، واستشهد بقول "مهلهل:

أبي فراس الهيجاء في كل حومة وجدك عبد يحلب التاء دائما. (7)

وحرف التاء الشديد، المهموس، فيه من الإصرار والعطاء والتجدد، ما يقابل حرف النون الرخو الأنفموي الباكي. الأمر الذي يوحي بوجود محاولات يائسة للتوازي الذي يكابده الشاعر في حياته الخاصة، قبل أن يكابده في ميدان الإبداع.

هوامش:

1 - STEFAN.ZWEIG. DERNIERS MESSAGES.P .96.ed.VICTOR .ATTINGER.1949.PARIS.

2- محمد كمال حسن المحامي. سارتر. ص:73. منشورات المكتب العالمي بيروت.1988.

3 - بيرندللو. واحد لا أحد ومائة ألف. ص:44.نقلا عن ألبيرس. تاريخ الرواية الحديثة ص:179. (ت) جورج سالم. منشورات عويدات بيروت.1988.

4 - أنظر سارتر. ما الأدب؟ (ت) محمد غنيمي هلال. دار العودة (دت) بيروت.

5 - انظر حبيب مونسي. فلسفة القراءة وإشكاليات المعنى. رسالة دكتوراه الدولة. مخطوط. بلعباس.

6 - يحي عبابنة. النظام السيميائي للخط العربي. ص:54. اتحاد كتاب العرب. دمشق.1998.

7 - الخليل بن أحمد الفراهيدي. ثلاثة كتب في الحروف للخليل. ابن السكيت. الرازي. (ت) رمضان عبد التواب. ص:34. مكتبة الخانجي. مصر.1987.

بسم الله الرحمن الرحيم

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير