والقول إلى إيقاع، والإيقاع إلى موسيقى، والموسيقى إلى معنى، وهكذا.
الكل يرن في الكل:
الموسيقى في شعر طاهر رياض
ثمة ظواهر عديدة في الشعر العربي الحديث مما يمكن أن يدعى «المعادل الفني» للحياة الحديثة والفكر الحديث. ويقف الوزن والقافية على رأس هذه الظواهر، فالتحرر منهما معادل فني للتخلص من الإيمان بالكلية: وحدة الحياة، أو الوجود، أو التجربة من حيث تشكل كلا متناغما. فالقصيدة مزق متناثرة، «سائبة»، وهي انعكاس للحياة الممزقة المتشظية.
ولم يشرع طاهر رياض نوافذ شعره على هذا التشظي الحداثي، لم يكرس التمزق والانفصال والفرق وانعدام الوحدة، فسعى دائبا محموما لنوال برهة الوصال حيث «الكل مدغوم في الكل، داخل فيه بحميمية وتماه» على حد تعبيره، وذلك جريا على الطريقة الصوفية ببعدها التوحيدي الأكبري القاضي بأن «كل شيء فيه كل شيء»، وجدليتها الوجودية حيث الشيء مظهر للكل وموجود به وفيه، صورة خالقة له ومخلوقة به. وبروحها الأكبرية تلك جاءت قصيدة طاهر رياض معادلا فنيا لوحدة الوجود، كلا متناغما تتوازن عناصره كيانات متلاحمة برابطة جمالية، وجودية إن شئت باعتبار الفن خلقا. وتقوم هذه الرابطة ببناء العلاقة بين الكيانات على جدل الوحدة والاختلاف، الجمع والفرق، الوصل والفصل.
يقول في قصيدة بعنوان (عزلة):
زادنا السكر سوادا
هكذا نفتتح السهرة أو نختمها
الندامى يرفعون الليل بالليل
جميعا،
ثم يلقون به عن حافة الصبح
فرادى
(الأشجار على مهلها، 105)
ثمة تناقض في هذه القصيدة يظهر على مستوى العلاقة بين الموسيقى والدلالة حسبما يذهب ضياء خضير، ذلك أن الوضوح الإيقاعي والبساطة الخارجية للنص يخفيان، برأيه، تكثيفا في اللغة والدلالة، يقول: «فهذا الوضوح وضوح خادع يتخذ من الشكل الكلاسيكي للقصيدة العربية إطارا خارجيا ما يلبث أن يحطمه أو يبعث الشك في مجمل قوامه بمجرد التفطن إلى الدلالة الكامنة، أو معنى المعنى الثاوي بين أجزائه وبنيته الخارجية نفسها. ولنلاحظ، مثلا، أن تفعيلة الرمل (فاعلاتن) التي تدل على تلاصق وسرعة في الحركة تتناقض بطبيعتها مع طبيعة الحركة المتمهلة في هذه المقطوعة ومع هذا السواد الثقيل المسيطر على صدور الندامى، ولذلك، فإن الوزن يبدو بحاجة إلى التأني في مساوقة اللحظات الزمنية الداخلية المتأملة والمتباطئة بسبب السكر» (20). (التسويد للباحثة).
والعجيب أن خضير يقول ما يقول في سياق إظهار تميز الشاعر طاهر رياض من حيث اقتصاده «بلغته وحرصه على العناية بصوته الشعري متفردا متميزا هكذا». وهذه الـ» هكذا» تكمن، حسب خضير، في وحدة العالم واختلافه، الوحدة التي تحيل إلى تعدد في لغته الشعرية (لاحظ عنوان المقالة). فأي وحدة للعالم في قصيدة أبعد ما تكون عن الوحدة، تتصدع بنيتها بين الصوت والمعنى، وتتأزم فيها العلاقة بين الوزن والدلالة، وللخروج من هذا المأزق، يبدو الوزن بحاجة إلى التأني، كما ينصح.
وهكذا، لا يفلح طاهر رياض في هذه الـ» هكذا»؛ تفرد صوته الشعري وتميزه، فشاعريته أقل بكثير مما يظهره خضير، مع ما يقرره من هذا التوتر بين البنية الإيقاعية والبنية الدلالية، هذا التوتر الذي يقضي على تواصل القصيدة وامتلائها. فبتناقضه مع الدلالة ولغة النص يبدو الإيقاع «إطارا خارجيا» لا صلة له البتة بالمقول الشعري، والشاعر لا يستحضره إلا ليحطمه. وبهذا الاعتبار لا يكون الوزن ثوبا للقصيدة وحسب، بل هو ثوب لا يناسب قدها.
وبعد تحليل واف للقصيدة يخلص خضير إلى القول: «يوظف الشكل الغنائي عند طاهر رياض لفك مغاليق الكلام ومنحه آفاقا أبعد ما تكون عن الروح الغنائية، وللإيحاء بتقنيات شعرية أخرى ذات علاقة بالبناء السردي وحتى الدرامي في القصيدة الحديثة، بما فيها من تكثيف في اللغة وتلوين في الصورة وتطوير في الحركة واشتباك في الدلالة». وبهذا، فإن القصيدة جسد مترهل بوزنه، وتدبره روحان، أو أكثر، روح غنائية، وروح/ أرواح أبعد ما تكون عن الغنائية.
فهل ذلك كذلك؟ وإن كان، أفليس أدعى بطاهر رياض أن ينثر شعره، وأليق به تخليص شعره من هذه الموسيقى المترهلة؟ وإن لم يكن، فلا يخلو: إما أن يكون النص غير متمهل فيتساوق مع سرعة الوزن، وإما أن يكون الوزن متمهلا فينسجم مع تمهل النص، وإما لا هذا ولا ذاك.
¥