تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

تتوزع القصيدة من حيث تشكيلها البصري في ستة سطور، وأربع من حيث الاكتمال العروضي والدلالي. ومن شأن هذا البناء الشكلي الخارجي أن يضيء للمتلقي توجهه نحو اكتناه الدلالة، أي الإيقاع الداخلي، وذلك على أساس تكامل الإيقاعين الخارجي والداخلي وتلاحمهما. أما بافتراض التناقض الحاصل بينهما، على ما يقرر خضير، فسنلجأ إلى استيراتيجية معاكسة، تبدأ بالدلالي لتنتقل إلى الصوتي.

إن الإيقاع عموما، لأي شيء كان، يقوم على: التماثل والتكرار والنظام، فلا إيقاع دون هذه الثلاثة مجتمعة (21). وعليه، تتوفر القصيدة على إيقاع دلالي بتكرار معنى أو تناوب معنيين أو أكثر بالتكرار على نحو متماثل وبنظام محدد. والمعنى في قصيدة (عزلة) يدور حول قطب واحد: أيلولة الفعل إلى الخيبة، ويجسد هذا المعنى بالسكر وإخفاقاته في بعث ما يبعث من النشوة والتفتح والفاعلية والمشاركة. فينقسم المعنى إلى الفعل ومآله ليتكرر في أربع حركات وفق النظام التالي:

الخيبة، الفعل، الفعل، الخيبة.

ويحكم بناء القصيدة بالربط الجدلي بين حركات المعنى، جدل التماثل والتقابل، فالحركة الأولى تماثل الرابعة، والثانية تماثل الثالثة، وتتقابل كل حركتين متماثلتين: الأولى والرابعة تقابلان الثانية والثالثة.

أما التماثل فواضح، وأما التقابل فناشئ عن فشل الندامى في مسعاهم رغم وصولهم إلى لحظة السكر، إذ ازدادوا بهذا السكر سوادا وتفرقوا فرادى. وثمة براعة فائقة من الشاعر في اختيار تجربة الخمرة لتجسيد الخيبة، فهي من أكثر التجارب ثراء دلاليا وغنى إيحائيا لانتمائها إلى حقول دلالية ورمزية تنصرف إلى معاني الحياة، فهي دالة على الحيوية، واستيقاظ اللاوعي، وتفتح النفس، وتؤجج المشاعر، وصفاء الخيال، واكتمال الذات بلقاء ذاتها، وتكامل الذات مع الآخر النديم في أقصى فاعلية من المشاركة الوجدانية والحبية والرؤيوية، وما يؤدي إليه كل ذلك من النشوة والانطلاق والطرب. وهذا مما يتناقض تناقضا حادا مع ما وصل إليه الندامى بسكرهم من السواد الثقيل والوحدة، الأمر الذي يعمق حس الخيبة ويصعده. فيتسم إيقاع المعنى بحركية واضحة تنبع من التنقل بين المعنى وضده. غير أن هذه الحركية لا تصف زمن الحركة من حيث الطول والقصر. ولما كان المعنى مقولة لازمنية فإن طوله الزمني يقاس بوقعه وأثره في النفس. وتتصف الحركة الأولى (زادنا السكر سوادا) بتراخي إيقاع الدلالة وامتداده المتأتيين من الفعل ومتعلقه.

فالفعل (زاد) يدل على النمو والتكثير والإضافة، إذ يشير إلى كل إضافة كمية حسية كانت أو معنوية، وزيادة الكم تعطي انطباعا بطول الزمن، فالزمن شعور بالحركة والحركة كم متصل. ويتعمق هذا الطول بـ (سوادا)، فالسواد ينصرف إلى الكثرة والحشد والجمع (22)، ويضاف إليه الامتداد؛ الشعور بالامتداد الزمني للامتداد المكاني (23)، وبما أن اللون الأسود ثابت القيمة والشدة (لا يخضع للتدرج: فاتح غامق، صارخ باهت) فإن زيادة السواد تفيد الاستغراق في اللون، أي استغراق السواد لدواخل الندامى، مما يعمق الشعور بالامتداد الحركي زمنيا.

وتكسر الحركة الثانية (هكذا نفتتح السهرة أو نختمها) تراخي الإيقاع وامتداده لتقلبه إلى السرعة والقصر. فـ (هكذا) تساوي بين افتتاح السهرة واختتامها، بين حالة الصحو وحالة السكر. وهذه المساواة تتضمن هدم الإحساس بالزمن.

وينقلب الإيقاع الدلالي ثانية إلى التراخي مع الحركة الثالثة (الندامى يرفعون الليل بالليل جميعا) وفقا لما تقتضيه إشارية الليل، وما تتركه من أثر. لكن هذا التراخي ليس امتداديا على نحو امتدادية الحركة الأولى، إنما شديد الوقع وثقيله، وذلك بما يتركه الفعل (يرفعون) من أثر في النفس لما يستلزمه من الجهد والمشقة.

أما الحركة الرابعة (ثم يلقون به عن حافة الصبح فرادى) فتماثل الحركة الأولى من حيث إيقاعها المتراخي الممتد. ويتركز ذلك في إيحاءات (فرادى) الدالة على التفرق والاستغراق بالوحدة.

فالحركة الزمنية للمعنى، أي أثر المعنى زمنيا، ثنائية كما حركة المعنى نفسه، مبنية على التشابه والتقابل (ثلاث حركات متمهلة تقابل حركة سريعة)، وإن كان الطاغي عليها هو التمهل إلا أن نسق التقابل يمنحها حركية تخفف ثقله.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير