تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وتتعمق هذه الجمالية بالقيمة الدلالية للقافية، من حيث يتوحد التجانس الصوتي بالتجانس الدلالي. فالأسود دال على كل ما يستكره من المعاني، فهو لون الحداد، الموت، الكآبة، الضيق، الانغلاق، الحسرة. وبهذه الارتباطات الدلالية والإشارية فإن «الأسود والفراغ متحدان، بحيث لا يمكن الفصل بينهما» (25). و (فرادى) لون العزلة، الانفصال، الانغلاق، الكآبة، الضيق، الوحدة، وبهذه الإشارية تتحد مع الفراغ أيضا. فتنتظم (فرادى، سوادا) داخل إطار فراغية الخيبة التي تجثم على صدور الندامى فتزيد سوادهم سوادا لتفرقهم فرادى، أو تفرقهم فرادى لتزيد سوادهم سوادا. وبذلك ترتبط (سوادا) و (فرادى) دلاليا بحيث تصلح الواحدة منهما أن تكون سببا للأخرى، و/أو مسببا عنها في الآن عينه، ودون ترجيح لإحداهما على قسيمتها. فقد انبنت قصيدة (عزلة) على إيقاع الرمل، وهو من الأوزان الصافية (واحدي التفعيلة) واضح الإيقاع بسيطه، ساذج على حد وصف القدماء. ولم يتصرف الشاعر في التفعيلة (بالزحافات والعلل) بما يخرج الوزن عن صفائه وسذاجته. وعلى الرغم من ذلك، ارتفعت موسيقى القصيدة من مستوى الإيقاع البسيط للربابة إلى مستوى البناء الموسيقي المتداخل متعدد الآلات للأوركسترا. وتأتى لها ذلك من بناء القصيدة على نسقية مركبة تجلت في الجمع بين نسق التشابه ونسق التقابل على المستويين الصوتي والدلالي منفصلين ومجتمعين، وفي المناغاة بين الأقيسة الشكلية الحسابية المقننة للوزن والقافية والتمثيلات الصوتية لهذه الأقيسة، وفي التساوق بين الإيقاع الصوتي والإيقاع الدلالي، وفي التناغم بين المعنى الإيحائي للموسيقى بمولداتها مجتمعة (الوزن والقافية والنسيج الصوتي) والمعنى الذي تنميه القصيدة.

وإذا كان ذلك كذلك، فإن موسيقى القصائد المؤسسة على إيقاع بحر واحد تتنوع ولا بد، وتختلف من قصيدة إلى أخرى باختلاف مبناها ومعناها، ولا يكون إلا باتقان الشاعر لأدواته الفنية، وإلا انفلت الوزن منه ليكون محض إطار خارجي للقصيدة، والأمر أن تكون الموسيقى باطن القصيدة وظاهرها، وهي كذلك في شعر طاهر رياض. يقول على إيقاع الرمل:

واقلقي

لو قلق الثدي إلى رضعة طفلِ

قلق اللحم لعضِّ النار فيهِ

ومرايا المطر الأعلى

لتهويمة شكلِ

واقلقي أكثرَ

حتى لا تظلي

مثلَكِ الآن ...

ومثلي! (العصا العرجاء، 108).

يقوم النسق الإيقاعي على إيقاع التفعيلة المزاحفة (فَعِلاتُن) (26)، غير أن إيقاعها لا يرد بانتظام مطلق، إذ تتخلله (فاعلاتن) في كل بيت. إنما يشكل إيقاع (فعلاتن) نسق إيقاع القصيدة من حيث ما هو سائد (27)، وبذلك يتسم إيقاع القصيدة بدرجة عالية من الحركية والسرعة. ومبعث الحركية اختراق النسق الإيقاعي، ففي دخول (فاعلاتن) في سياق (فعلاتن)، وإن كان يجري على سنن العروض، كسر لانتظام النسق وخلخلته، بما يضفي بعدا نغميا وحركية موسيقية تتركز في نقطة اختراق النسق الإيقاعي. بالإضافة إلى حركية (فاعلاتن) التي ترجع إلى ما تتسم به من انسياب طباقي وتنوع حركي (فحركتها: هابطة صاعدة مستوية) تفتقر إليهما قسيمتها (فعلاتن). أما السرعة فمردها التفعيلة المؤلفة للنسق (فعلاتن)، إذ إنها أقصر زمنا من قسيمتها فهي أسرع، ويتوالى فيها مقطعان قصيران بما يزيد سرعتها.

يقوم الوزن أساسا على تتابعات كمية زمنية ترتبط جدليا بعلاقات التماثل (القصير ومثله، والطويل ومثله) والتقابل (القصير والطويل). ويبلغ هذا الجدل مبلغه في (فعلاتن) من حيث يتوالى فيها متماثلان هما ضد لعقيبيهما المتماثلين. فتنظم الطاقة الموسيقية في القصيدة في ثنائية ذات بعدين متضادين: قصير وطويل، سريع وممتد، حركي ومتراخ، ضعيف وقوي، خفيض وعال. وحركة الإيقاع الناتجة من تناوبات هذين البعدين انسيابية متثنية، من التسريع إلى التراخي، التضام إلى الاتساع، التقريب إلى التهادي، ذلك أن اعتقابهما لا يكون إلا بعد إشباع الحركة ونغمتها بتكرار المثل.

وقد تسير حركة التثني إلى منتهاها وقد تنحسر، ومعتمدها طبيعة المقاطع الطويلة. فبقدر ما تكثر المقاطع الطويلة المفتوحة بقدر ما تتناهى وتأخذ مداها، وبقدر ما تكثر الطويلة المغلقة بقدر ما تنحسر ويقصر مداها.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير