تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ووزن ذلك أن نطق المفتوح يجري مجرى مخالفا لنطق المغلق إلى حد التعارض. فبالنظر إلى أن المقطع الصوتي «توزيع منظم للطاقة الصوتية» (28)، فإن هذه الطاقة تنسرح بحرية في نطق المفتوح حتى انقضاء الدفقة الهوائية المنتجة للصوت، بينما تقيد في نطق المغلق، إذ إن «الطاقة الصوتية للصوامت مقيدة على أي حال» (29). وتختلف شدة التقييد باختلاف الصامت المقفل به المقطع، فهي تصل إلى حد يتجشم فيه انقضاء دفقة الهواء، وتكون أسلس انقضاء مع أصوات اللين المائعة (قارن: مَنْ، قفْ، قدْ، عِضْ).

وتتردد في القصيدة المقاطع المغلقة (نسبة المغلق إلى المفتوح 3: 2). وهي بتضاغط الدفقة الهوائية المنتجة لها ذات إيقاع شديد ونغمة حادة غليظة بعيدة عن السلاسة والرقة. غير أنها لا تقوض الرهافة التي لـ (فعلاتن) ببنيتها المجردة وتمثيلاتها الصوتية بالقصير والطويل المفتوح، إنما هي خروقات أو تخللات تتقطع معها استمرارية الحركة بالرهافة والليونة التي هي عليها. فتقلقل انسيابية الحركة الإيقاعية وتلايناتها المتثنية بالاصطدام بحاجز الخرق المنافر بما فيه من الشدة والصعوبة والحدة والغلظة، وبتجاوزه تستأنف ثم ما كانت عليه من اللين والانسياب، لتعود وتخترق من جديد، وهكذا.

وبذلك ينتاغم الوزن أيما تناغم مع حركة النفس، حركة القلق (بالأحرى التحريض على القلق) المتقلقلة بين ما قد يكون وما قد لا يكون، والمتقلبة بين الشعور بالانفراج والراحة والهدوء في الاسترواح إلى ما قد يكون، والشعور بالحصر والضيق والاضطراب في الاسترواح إلى ما قد لا يكون.

ويجيء النسيج الصوتي على سمت الإيقاع من حيث ينعقد بتآلف المتنافرات: الأصوات المفخمة (القاف، الطاء، الضاد، الظاء، والقاف أكثر ترددا) والأصوات المائعة (اللام، الراء، النون، الواو، الياء، واللام أكثر ترددا). وثمة تباين طباقي لهذه الأصوات، فللمفخمة نغمة حادة غليظة انفجارية في حين أن للمائعة نغمة خفيفة رقيقة مرنانة، وتوحي المفخمة بتثاقل الحركة وشدتها، وذلك لصعوبة نطقها، إذ تستلزم جهدا عضليا زائدا يصحبه جهد نفسي يعادل الجهد المبذول في النطق (30)، وفي المقابل تشف المائعة عن الخفة والحركية والحيوية، إذ يجري في نطقها اللسان بانطلاق وطلاقة.

ويتكثف التمزيج اللحني المنبني على المنافرة الصوتية في كلمة (قلق) المكررة أربعا بصيغتين (واقلقي، قلق)، فهي بذاتها، ناهيك عن أنها مكررة، من الكلمات ذات الخصوصية في اللغة، الكلمات المصوتة التي تتعمق فيها الشحنة التعبيرية، والتأثيرية من ثم، إذ تجيء أصواتها على سمت المعنى المعبر بها عنه، فالجمع بين شظف القاف ولين اللام، شدة القاف وميوعة اللام، تجسيد صوتي لحركة القلق النفسية يحاكي صوتا موهوما لصورة متخيلة لهذه الحركة النفسية.

وتشكل (قلق) نقطة انطلاق تخضع القصيدة لتداعياتها الداخلية صوتيا ودلاليا، لتصير أشبه بمقام النغمة الموسيقية، والقصيدة تنويع موسيقي ودلالي على هذا المقام. فتفتتح (واقلقي) مقطعي القصيدة، وتكرر في ثناياها بصيغة مختلفة (قلق). وللتكرار أهمية تنبع من دوره الموسيقي في الشعر من حيث يحدث توازنات موسيقية تعطي انطباعا بأن المكررات هي اللحن الأساسي للقصيدة. ولا تؤدي (واقلقي، قلق) هذه الوظيفة الثانوية التي تسند الوزن وتوازنه بحيث تبدو وكأنها اللحن الأساسي للقصيدة، إنما هي أساس اللحن فيها من حيث تزن الوزن بوزنها، ففي تنقلها من صيغة إلى صيغة (واقلقي إلى قلق) تنقل للوزن من (فاعلاتن) إلى (فعلاتن)، وتشكيلها الصوتي أساس ينبجس منه التمزيج اللحني والنغمي، إذ تستدعي القاف أخواتها المفخمات، وتستدعي اللام أخواتها المائعات.

وليس القلق نقطة انطلاق تحكم إيقاع القصيدة وأنغامها وحسب، بل هي نقطة انطلاق للدلالة أيضا. فحركة الدلالة في القصيدة ثنائية ضدية: الحركة المتمثلة في المستقبل، والسكون المتمثل في الحاضر. أما الحركة فيشف عنها مجيء القلق بصيغة الأمر (واقلقي)، فهي تحريض على القلق، تحريض على الحركة، واستشراف للمستقبل المتمخض عن حركة القلق، وأما السكون فيدل عليه دافع التحريض على القلق (حتى لا تظلي مثلك الآن ومثلي). فضدية الحركة- السكون تنعقد بحركة القلق، ذلك أن القلق جسر للانتقال من الجدب إلى الخصب لانصراف مجالات القلق إلى الدلالة الإخصابية.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير