منبثق الخصب، بل يدعم هذه الدلالة ويعمقها.
ومن حيث موضع (القلق) البرزخي هذا يطل بقافه على الجدب وبلامه على الخصب، فيدل بما توحي به قافه من الشدة والصعوبة والضيق والتضاغط على الجدب، وبما توحي به لامه من اللين والرقة والتراخي والحركية على الخصب. وبين هذه الإطلالة وتلك، وهذه الدلالة وتلك، يرتفع القلق الإخصابي ليكون طاقة الوجود لتخطي العدمية في الوجود، من حيث هو برزخ يجسر الفجوة بين العدم والوجود.
وبينما كانت وظيفة القافية في الشعر العمودي ضبط الوزن بإحداث نقطة ارتكاز موسيقية، فاضت في شعر التفعيلة عن الوزن نفسه لترتبط بالقيم الموسيقية المولدة من الوزن (35). فصارت حالة خاصة مكثفة لموسيقى القصيدة من حيث تعقد العلاقة بين الوزن والدلالة وتبرز تناغمهما البديع وتناسجهما المتلاحم. وبالإثارة التخييلية لأصواتها صارت بالسمعي إلى التخيلي البصري. فبقدر ما تشبه المعنى بقدر ما تزيد من درجة الإثارة التخييلية للصوت، فإن هي فقدت شبهها بالمعنى فقدت إفاضتها عن الوزن وعادت أدراجها إلى ما كانت عليه في الشعر العمودي، إلى مجرد ركيزة نغمية ونهاية موسيقية للبيت، بل قد تفقد هذه القيمة الركيزية للموسيقى فيما إذا تنافرت مع الدلالة بحيث تنبو بها القصيدة.
وقد سار طاهر رياض، على ما رأينا، بتراسلات القافية إلى أبعد مدى لها من التناسج بالمعنى، وذلك بالجمع بين الشكل الموسيقي والتواصل الموسيقي، بين النغم الذي تولده والمعنى الإيحائي الذي تبعثه. ولما كان للقافية المقيدة دلالة مختلفة عن تلك التي للمطلقة، فلا بد أن يكون اختيار الشاعر لها بدافع دلالي أكثر منه موسيقي. ومثال ذلك القافية المقيدة في قصيدة (هي سكرة أخرى):
هي سكرةٌ أخرى لهذا الموت،
لم يبقَ الكثير من الوجود الفجِّ
كلٌّ ناضجٌ حتى السقوط ..
بكى الحبيبُ
ولم يكن بيني وبين غيابِهِ سرٌّ،
فقلتُ: اهدأْ حبيبُ
أنا غيابُك كلُّهُ
وَبَكَيْتْ
هي سكرةٌ أخرى لنا:
مَيْتٌ روى عن مَيْتْ!
(الأشجار على مهلها، ص31 - 32).
تمثل سكرة الموت مواجهة فعلية للموت، فهي الحالة المعيشة للقلق الميتافيزيائي المواجه للفناء، حيث تتقلص المسافة بين التجربة الواقعية ومجاهيل الموت، إنها، بتصور الشاعر، اللحظة التي يكون فيها الموت أشد التباسا بالحياة، إذ تؤذن بالانقطاع عن الوجود لاكتمال الموجود، إنها التعبير الأكمل لاكتمال الذات (كل ناضج حتى السقوط)، واكتمال التوحد مع الآخر الذي هو الاكتمال العشقي (أنا غيابك كله).
إن سكرة الموت صورة خاصة من صور القلق شبيهة ومفارقة، شبيهة من حيث هي حالة نفسية فيزيائية تتغشاها الشدة في تردد النفْس والنفَس بين الإراقة والإفاقة، فهي كما القلق برزخ فاصل واصل بين الموت والحياة، الفناء والبقاء، ومفارقة من حيث مؤداها، فهي مواجهة للفناء تفني، على حين أن القلق مواجهة للفناء تحيي.
ولأنها مفارقة جاءت قافيتها مفارقة. فبينما اجتلب القلق قافية مطلقة اجتلبت سكرة الموت قافية مقيدة، وما بين الإطلاق والتقييد من فروق هو ما بين القلق والسكرة من فروق؛ الحركة والسكون الحياة والموت.
وقد انبنى إيقاع القافية على مقطع من أصعب أنماط المقاطع على لسان العربي، وذلك لتوالي صامتين ساكنين (ص ح ص ص)، ولا تسوغ العربية التقاء ساكنين إلا في آخر الكلمة في حالة الوقف عليها. وحتى في هذه الحالة لا تستسيغه وتنفر منه، إذ تلجأ إلى التخلص من التقاء الساكنين بتحريك الصامت الثاني من آخرها. وهو من حيث البنية التوزيعية للأصوات يجافي ميل العربية إلى الخفة والسهولة، بيد أن نسيجه الصوتي جاء مشوبا بالخفة من وجه، ومصعدا للشدة من وجه. فالساكن الأول فيه (الياء) من الأصوات الانزلاقية المائعة خفيفة الإيقاع والنطق، وإن كان التسكين يذهب شيئا من خفته، والساكن الثاني، الذي هو الروي، (التاء) من الأصوات النفَسيّة (بفتح االفاء) حيث تتبعه دفقة هوائية فيتجشم الحفز والضغط عند الوقف عليه (36).
¥