تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وبهذا، فإن إيقاع القافية شديد صلب متضاغط، وإن كان مشاما برائحة الخفة. أما النغم فمتنوع رغم قصر الوحدة الزمنية للقافية، إذ ينتقل من الصعود إلى الهبوط إلى السكون. فيصعد قليلا مع الفتحة، ثم ينحدر بخفة مع الياء، ثم ينحدر بشدة بالانتقال من الياء الساكنة إلى التاء الخافية المتسفلة، ليسكن بشدة كبيرة في الصويت الذي يتبع التاء الساكنة. فالوقفة الموسيقية للقافية إيقاعا ونطقا ونغما تكاد تكون أشبه بلفظ الأنفاس الأخيرة. وبذلك، تبدو القافية مرآة لسكرة الموت من حيث ترتسم ملامحها في الصورة التخييلية التي يثيرها الإيقاع ونغمة الروي. ومن جانب آخر، ما كان لهذه الصورة التخييلية للقافية أن تتضح ملامحها لولا وقوعها في سياق السكرة.

فالقافية باعتبارها وقفة موسيقية تثير صورة تخييلية تبعا لإيقاعها ونغمتها حيثما وردت وفي أي سياق، وفي حال التناغم والانسجام بين موسيقى القافية والمعنى الذي ترد في سياقه، فإنها تقول المعنى موسيقيا، ويعمل سياق المعنى على إبراز قولها وتقريبه، أي إشباع الإيحاء الموسيقي.

وتكتمل الشحنة التأثيرية للموسيقى التي تولدها القافية، وتتضح الصورة التخييلية التي تثيرها بكلمتي القافية (بكيْتْ، ميْتْ)، إذ تدل كلتاهما على السكون والانقضاء، فالبكاء يخفف من شدة القلق الممثل للحياة والحركة، ليرتد إلى نوع من السكون الممثل للموت بانعدام الحركة، أما (ميت) فهو السكون بذاته وقد تجسد.

وبهذا، يتجلى في شعر طاهر رياض كنه الشعر الذي عد لأجله أعظم الفنون، وأكثر نظم الاتصال تعقيدا، وهو تعدد الجدل في نظام اللغة الشعرية، فكما يرى لوتمان، ثمة جدل يجري بين لغة الشعر كحالة خاصة من حالات اللغة، وبين اللغة كحالة خاصة من حالات لغة الشعر، وتتحد العلاقة بينهما في توتر دائم، وجدل، أو جدليات بين مستويات النص المتعددة؛ العروضية والصوتية والنحوية والدلالية. وهذا ناتج عن أن العلامة داخل نظام لغة الشعر علامة مركبة (أصوات، صور، رموز)، والقصيدة نفسها علامة مركبة تتألف بدورها من تواليات العلامات المركبة (37).

ويعنينا هنا جدل الشعر والموسيقى، اللغة والعروض، من حيث يقوض المبدأ الأساسي الذي يحكم العلاقة بين الأنظمة السيميلوجية المختلفة، وهو «مبدأ عدم الترادف بين الأنظمة، فلا يوجد ترادف بين الأنظمة السيميلوجية، إذ لا نستطيع أن نقول نفس الشيء بالكلمة أو بالنغم، إذ تختلف الكلمة عن النغم من حيث هما نظامان يقومان على أسس مختلفة» (38). وفي الشعر لا يترادف هذان النظامان وحسب، إنما يتزامنان ويتداخلان أيضا. فيعزف اللحن بالكلمات، وتتنسق الكلمات باللحن. فتزدوج الكلمات علاماتيا في انتمائها إلى نظامين مختلفين مؤدية الوظيفة التي تؤديها وحدات كلا النظامين في آن معا. فالكلمة وحدة دالة (علامة= دال+ مدلول) في النظام اللغوي، وتصير في الشعر، دون أن تفقد كونها وحدة لغوية دالة، وحدة موسيقية (وحدة غير دالة) باعتبار تنسيقها المقطعي.

ويبلغ هذا الجدل مبلغه في شعر طاهر رياض في نشوة للكلمات تمزج الطرب بالخيال وتمازجهما، حيث إن الموسيقى المتولدة عن الوزن والقافية ليست مهمة في ذاتها ولذاتها، إنما في تراسلها مع اللغة، وليست الموسيقى شرطا للشعر إلا بهذا التراسل. وهو تراسل اندماجي، توالج للكلام والموسيقى في العمق، في فيض الرؤيا. فالشكل الذي يتنسق بما هو خارج عن اللغة، بالقواعد الحسابية في سلم الموسيقى الشعري، يتناسق مع الداخل في علاقات العناصر المكونة للشكل، وموسقة الكلمات المتحققة بالوزن وجمالية الأصوات وتآلفات النظم هي في العميق العميق موسقة لخيال الكلمات.

بيد أن شعر طاهر رياض لا ينفرد بهذا الجدل. فجدل الكلام الموسيقى أحد السمات المميزة للشعر قديمه وحديثه، وما محاولة القدماء لاستظهار ملائمة الأوزان للأغراض الشعرية إلا من هذا القبيل. ويتمثل هذا الجدل، مثلا، في شعر السياب، فثمة توازن يخلقه النص السيابي بين مكوناته الصوتية ومكوناته الدلالية. وقد ينبثق هذا التوازن من علاقات التماثل الصوتي- الدلالي في بعض النصوص، أو التقابل الصوتي- الدلالي في أخرى (39).

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير