تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وحيويتها لتطل من خلالها على روح الكون بواحديته المتعددة.

أما الفاعلية التأثيرية لهذه الصرامة الإيقاعية والقافوية والتكرارات الصوتية فهي إثارة الارتخاء الحلمي وإثارة انتباه الخيال. وبقدر ما ينتظم الإيقاع والأصوات بقدر ما تزيد درجة الارتخاء الحلمي، أي غيبة الحس، فتزيد معها درجة انتباه الخيال، أي حضوره، ليصير الشعر بذلك أكثر إمساسا بالوجدان منه بالذهن. ولذلك، فإننا مع طاهر رياض نحس الشعر قبل أن نفهمه، ونغنيه دون أن نفهمه.

فالوزن والقافية ليسا إسار حديد يكبل روح الشعر والشاعر على ما يزعم أدعياء الحداثة وما بعد الحداثة، إنهما حمالان للرؤيا كغيرهما من العناصر المشكلة للنص. والالتزام بهما، بالأحرى الالتزام الصارم، لم يضع طاهر رياض في أسر ضروراتهما، ولم يقيد قريحته الشعرية، ولم يحل دون تجديده الواضح في البنية والأسلوب. ومن ذلك فرط الاقتصاد في اللغة بالاختزال والحذف والنمنمة، إلى حد أنه «يمحو أحيانا أكثر مما يجب، فنستمهله ونسأله أن يترك قليلا من الفحم والغبار لنرى العلاقة الأولى بين الأشياء والكلمات في تكوينها الأول» (49).

أوليست هذه هي السمة الأولى، أو الشرط الوجودي الأول لقصيدة النثر التي يباهى بامتيازيتها بها على الشعر الموزون المقفى السائر، على حد قول الصكر، نحو الترهل والهيجان اللغوي بما تفرضه ضرورات الوزن والقافية (50). ولعل فتنة اللغة المكثفة المحمولة بالوزن والقافية والمتوهجة بهما في شعر طاهر رياض ينطبق عليها ما قاله يوسف الخال بحسرة وأسى: «كنا نشكو من الوزن أنه إسار وسلسلة حديد، فإذا هو يعود يطل قالبا للمواهب» (51).

وإلى جانب الاقتصاد في اللغة تتميز قصيدة النثر حسبما هو قار في أدبيات الحداثة بكثافة الصورة الشعرية فيها، هذه الكثافة التي لا تكاد تجد لها مثيلا في الشعر العربي، وذلك نتيجة لانعتاقها من سلاسل الوزن والقافية. فهذه السلاسل أدت بشعر التفعيلة إلى استنفاد «طاقاته خلال فترة زمنية قصيرة، وقد لا يعمر طويلا في المواجهة مع الشعر الحر [قصيدة النثر] المسلح بأخطر أسلحة الشعر وأقواها، وأعني الصورة» (52).

ويقرر أبو ديب أن ثمة تناسبا عكسيا في توفر الفجوة: مسافة التوتر (=الانحراف) بين مكونات العمل الشعري، أو بين مكونين من مكوناته. وفيما يتصل بالوزن والصورة الشعرية من هذه المكونات يبدو «أن طغيان الانتظام الوزني في الشعر يرافقه انحسار للصورة الشعرية عنه. وكلما خف طغيان الانتظام الوزني كلما ازداد بروز الصورة الشعرية في النصوص المنتجة» (53).

وباستجلاء الشعر العربي في مراحله المختلفة يتبين له «أن نسبة ورود الصورة الشعرية في قصيدة النثر أعلى بمرات من ورودها في شعر التفعيلة. كذلك، إن نسبة ورود الصورة في الشعر الحديث أعلى بمرات من ورودها في الشعر القديم. والعامل الحاسم المرافق لهذا الخط البياني لارتفاع نسبة ورود الصورة الشعرية أو انخفاضها هو توفر الانتظام الوزني وانحساره» (54).

ويسقط شعر طاهر رياض هذا العامل الحاسم من أساسه، فطغيان الانتظام الوزني شبه المطلق في شعره يرافقه طغيان للصورة الشعرية. ولا يعني هذا أن أبا ديب أخطأ في استجلاء الشعر وتحديد خطه البياني الذي يظهر تناسبا عكسيا بين الوزن والصورة الشعرية، إنما يرجع الأمر إلى الخصوصية الشعرية لنص طاهر رياض. وهو ما دعا محمود درويش إلى وصف قصيدته بأنها «العناق الأقصى بين الصورة والإيقاع» (55). ولعل بضعة مقاطع من قصيدة (جهات عمياء) كافية لإظهار النسبة العالية لورود الصورة الشعرية في سياق الصرامة الإيقاعية وزنا وقافية:

الكأس نحو هشيمها الفَوَّارِ،

لَبّات الصبايا نحوَ سكين الترهُّلِ،

غلمةُ الدفلى الطريةِ نحوَ أسنان الهواءِ،

جهاتُكِ العمياءُ نحوي

جرّي غيابَكِ كلَّهُ نحوي

هيأتُ ما أبقيتِ لي:

جسدا يهبُّ

وشهوةً تهوي

خذني قليلاً منكَ يا رملَ البدايةِ

أسمعُ الأصدافَ تنشجُ فارغاتٍ

في جيوبِ الماء،

أسمعُ بومةً تتلو بصيرتَها وحكمَتَها عليَّ

وتعتريني خفّةً سوداءَ،

أسمعُ ليلَها السريّ يشرقُ بي؛

قليلاً منك يا رملَ البدايةِ

ليس لي قلبٌ لأرحلَ فيكَ

أو لغةٌ لأنضِجَ في تَهدُّجِ نارها لغوي

(الأشجار على مهلها، 41).

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير