تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فلو تنوعت صور التفعيلة في هذين البيتين لخفتت الموسيقى وبهتت، فمثل هذه الرتابة، إن سلمنا بأنها رتابة، تمسك الوزن من الانفلات والموسيقى المولدة عنه من الاندياح والتشتت، خاصة أن أبيات شعر التفعيلة متفاوتة الطول.

وعلى العموم، فإن إيقاعات القصائد تنزع إلى النمطية الأقرب إلى الرتابة من حيث عدم التنويع في صور التفعيلات، والأبعد عنها من حيث قيامها على نسقية مركبة حسبما أوضحنا في أعلاه تفصيلا. وهي لذلك كإيقاعات الحلم من حيث هي سريعة وهادئة، خفيفة ورخية، راقصة ومتراخية.

وليست القافية أقل نمطية وانتظاما من الوزن. فالغالب اعتماد القصائد على نمط التقفية المنتظمة مقطعيا بقافية واحدة (والمقاطع فيها أبيات أيضا لتدوير السطور). مما يقرب القصيدة من الشعر العمودي، إذ لا تختلف عنه، مع توحيد القافية، سوى في تفاوت طول الأبيات. وقد لا يلتزم بقافية واحدة في القصائد الطويلة، ومع ذلك تتحد كل مجموعة من مقاطع القصيدة بقافية واحدة. ونادرا ما يلجأ إلى نمط التقفية الحر المنوع (47). ومن أمثلة التوحيد القافوي قوله في قصيدة (أبو حيان التوحيدي):

خبا الليلُ،

واختبأ الأصدقاءُ

وخلَّعْتَ دونك بابَكْ

على رعشة في الخواءِ،

تفتشُ عنك

وتحصي غيابَكْ

تعبتَ إذن؟

أم وليُّ اغترابِكَ

أوهن فيكَ اغترابَكْ؟

خُذِ الريح من أول الريح:

نمْ عن هبوبكَ شيئا

ورَمّدْ كتابَكْ (حلاج الوقت، 95 - 96).

وبهذا التوحيد القافوي يتصاعد رنين الموسيقى الصوتية في الوقفات القافوية، بما يمسك الوزن من الانفلات، هذا فيما لو تنوعت الوحدات الموسيقية في الوزن (تنوع صور التفعيلات)، فما بالنا بالوزن الدقيق غير منوع الوحدات.

وعلى الرغم من تصاعد الرنين الموسيقي القافوي فإنه لا ينزلق إلى التطريب والصدح الغنائي، بل يبقى في دائرة الغنائية الهادئة، ذلك أن الشاعر كان أميل إلى القوافي المقيدة على المطلقة، وحتى القوافي المطلقة جاءت حاجة دلالية أكثر منها حاجة غنائية تطريبية. وتظهر براعة الشاعر الإبداعية في هذا المستوى القافوي في أن القافية تطرب السمع لكنها لا تحجب المعنى أو تزيحه خلف إنشادها الحاد، وأن موسيقاها تثير خيال الكلمة وتداعيات المعنى بحيث تطرب الروح بإثارتها التخييلية، فهي تقول المعنى موسيقيا بالإلماح والإيماء والإيحاء.

وهذه الصرامة الإيقاعية بالوزن والالتزام بالقافية الموحدة تقرب الشعر من جذوره الفنية أكثر، من سلفه الجاهلي، وتبعده عن الرائج في الشعر الحديث الأميل إلى التنويعات الوزنية والقافوية، أو التحرر منهما. والمسألة ليست تقليدا شكليا، إنما لغة هذا الشعر الهادئة المصقولة ومعانيها الظلية لا تحتمل التفاوت الإيقاعي في الوزن، ولا التوتر الصوتي في القافية. ومع هذه الصرامة الإيقاعية المتوافقة مع ميل اللغة الشعرية إلى التمهل، يبدو الشعر «شبيها بتموج وجداني شديد التماثل والتناظر» (48)، نظرا لانتظام الموسيقى شبه المطلق.

ويتعزز هذا الانتظام العروضي بالانتظام الصوتي، حيث تتكرر الأصوات المتماثلة، أو المتقاربة نطقا أو صفة، ومن ذلك تكرار اللام، ثم السين والشين، فالتاء في قوله:

يقول الكلام الذي لم أقلْهُ

كلاما كثيرا عليَّ،

وينقش جسميَ باسمي

أنا آخر العاشقين الطغاة،

ويسألني: لم تمتُ بعدُ؟

لا لم أمتُ!

(الأشجار على مهلها، 17)

وتكرار كلمة بعينها، كالتكرار الطقوسي لكلمة (كأس) في قوله:

أنا واحدٌ

والكأس

لا

تحصى

كأسٌ لتُسندني،

وكأسٌ مثلها لتطيحني

كأسٌ لأهدأَ،

مثلها كأسٌ لتهدأ بي

كأسٌ لأمحوَ فكرةً وحشيةً

ثقبت دمي،

ولأُلهيَ البرقَ الشفيفَ

عن احتراز أصابعي

كأس انتشاء

كاسُ بوحٍ،

كأسُ بلبلةٍ،

وكأسٌ للنعاسْ

(كأنه ليل، 40 - 41).

وبهذا يستعيد طاهر رياض وجه الشاعر الجاهلي، فيتعشق الكلمة المصوتة سبيلا للدخول في طقس اللغة. فيحتفظ شعره بجوهر الغنائية، ببؤرة الإبداع الرومانسي، التي هي الموسيقى. لكن هذا لا يعني أنه قصر تجربته على الغناء الساذج والبوح المباشر والذاتية الرائقة كعادة الرومانسيين، بل على العكس، إذ تتكثف فيها لغة المفارقة الضدية، واشتباك الأنا، واشتجار المعنى، واحتدام الرؤية. فيبقي طاهر رياض على الخيط الرابط للشعر بالغنائية، مهما بدا ابتعاده عنها، وذلك بالاشباعات الموسيقية التي تصير نفخة تبعث الحياة في الكلمات، مستعيدة روح الأشياء بكل حركيتها

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير