تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ما انحرف واعتوره الضعف، منذ أن استبدل العرب القواعد بالحقائق والمعايير بالوقائع، والإلزام المتسلط بالوصف الدقيق الأمين" ص27.

وراح الدكتور يجول في بطون الكتب العربية القديمة يقتبس منها ما يعلل به المنطق أعلاه. فذكر قصة الأعرابي مع أبي حاتم السجستاني حينما نطق الأول كلمة "طيبي" في الآية الكريمة:"طوبى لهم وحسن مآب" بغير لهجة الثاني ولحنه، فعاد يصلحها له ومرات عديدة والأعرابي مُصر لايرغب عن يائها بديلا.

وذكره لهذه القصة لم يكن إلا توضيحا لطبيعة المغالاة التي جثت على صدور علماء السلف ممن تبنوا سنن "فرض القواعد" لا "وصف الحقائق". وهو غلو مبني على مبدأ القياس وما انحصر في كلام بعض قباءل العرب كقيس وتميم وأسد وهذيل وكنانة والطائيين، ودونهم شاذ لايعتد به. ولو وقفوا عند هذا الحد لهان الأمر كما يقول صبحي الصالح، إذ قطعوا ما بين العربية وأخواتها السامية من صلات، فرأوا العربية من خلال الزاوية التي أعجبتهم، لأنها أوسع اللغات وأشرفها وأفضلها كما يقول الصاحبي، لامن خلال مقارنتها باللغات التي تربطها بها أواصر القربى. وأنكروا أن يكون لغير العرب من البيان أوالشعر أو الاستعارة ما للعرب.

وتراه في آخر الفصل يطل إطلالة المتوجس على أصل اللغة: أإلهام هي أم توقيف أم غريزة؟؟؟ فتباينت الأقوال بينهم واستند كل واحد منهم على دلائله وحججه، دون حسم منه أو منهم.

لكن، يحق لنا من جهتنا أن ندلو بدلونا فيه، فنقول" إن اللغة حينما حدها ابن جني في كونها "أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم" كانت بهذا التحديد أداة ووسيلة منحها الله عز وجل لخلقه قصد تحقيق المآرب وتلبية الحاجات وتوطيد العلاقات والسلوكات بين بني البشر، مصداقا لقول الله تعالى: "" يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أثقاكم" سورة الحجرات الآية 13. وعليه، فقول القائل: إن اللغة وحي وتوقيف من الله تعالى قول لا أرى فيه مراء، إذ ليس باستطاعة الإنسان أن ينشأ لغة خاصة دون اعتماده على قواعد لغة سابقة أو معاصرة. أما القول بالمواضعة والاصطلاح فيمكنني اعتباره مرحلة ثانية تلحق التوقيف والوحي، لا لشيء إلا لغرض ضبط قواعدها، وتوضيح إعرابها، وتفسير عُجمتها ... والدليل على الدعوى، أن كتابة اللغة العربية التي نعرف الآن ليست هي ذاتها الكتابة التي كانت متداولة في عهد البعثة المحمدية، إذ ثم تطويرها وتنقيط حروفها وتجويد شكلها في عهد الخليفة علي بن أبي طالب كرم الله وجهه بعدما كانت حروفا تخلو من النقط والإعراب .... أما قولهم بأنها غريزة فلا أجد له عندي مسوغا، إذ كيف يمكن للغة أن تكون غريزة وفطرة يزود بها الكائن البشري، والطفل سيلحقه الخرس بمجرد وضعه في معزل بعيد عن الإنسان؟؟؟.

وفي ظل هذا النقاش، وهذا التباين في الآراء حول أصل اللغة وحول المنهج في التعامل مع اللغة من قبل علمائها القدماء، يقترح علينا الدكتور في فصله الثالث تجديد البحث في منهج فقه اللغة.

فكان له ما اقترح، وفي اقتراحه توصيف للمنهج الصالح في دراسة فقه اللغة، ذلكم المنهج الذي يستثمر أسلوبي الاستقراء والوصف في تحليل المادة اللغوية، باعتباره منهجا يعترف بأن "اللغة ظاهرة إنسانية اجتماعية كالعادات والتقاليد والأزياء .. بل ووسيلة تُستقصى بها الملامح المميزة لكل مجتمع، ... وأداة نمائه وارتقائه"صص32 - 33.

وإذا كان صاحبنا تبنى ما ذهب إليه العبقري ابن جني من أن اللغة تواضع ومواضعة، فإن باقي علماء اللغة لايكادون يختلفون على توقيفيتها وإلهاميتها. إلا أنك تجده يعمل جاهدا على دحض هذه القناعة وبكافة السبل المتاحة. وفي مقدمتها إلزامنا بفكرة ضرورة تجديد البحث في فقه اللغة، والعدول عن تقصي أصل اللغة الغامض المجهول، ليقول: إنه كلما كانت هناك لغة قديمة وإلا وهناك لغة أخرى أقدم منها، وبين هذه وتلك درجات متفاوتة من التعقيد والبساطة. وربما ستتضح هذه الدرجات حين مقارنة اللغة العربية باللغات السامية التي تجمعهما علاقة قربى رحمية، على ما يبدو. وهذا الموضوع سيشكل محور الباب الثاني من الكتاب المساءَل"دراسات في فقه اللغة" للدكتور صبحي الصالح.

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير