تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>
مسار الصفحة الحالية:

التناحر الطائفي والديني, زرع في أعماق أبي ماضي بذور الشك بالأديان والمتدينين, الأمر الذي جعله يتخطى الطوائف المختلفة فقاده فكره الى الإله الواحد, واجب الوجود؛ آمن بربّ واحد حكيم, خلق هذا العالم, ورتبه, ونظمه, إنه إله المحبة الشامل, الذي من المفترض أن يكون الإنسان على شاكلته, مفعم بالمحبة. فالمحبة تنير وتجمع الشتات الإنساني, في حين ان الكره والبغض يظلم ويمزّق. يقول شاعرنا:

"أحبب فيغدو الكوخ كوناً نيّراً

ما الكأس لولا الخمر إلا زجاجة

كم روّعوا بجهنم أرواحنا

ليست جهنم غير فكرة تاجر"

هذا الطريق المحفوف بالمخاطر والأشواك, بالشك والظنون, ابتعد عنه أبو ماضي وأخذ يسلك دروباً شائكة في الحياة, نظر حوله فإذا العالم كله ينحدر ببطء نحو الزوال, وما الخلود سوى ضرب من الخيال, تراب فتراب, حياة كلها هباء, وجميع العناصر الحية, الى فناء, فإلى أين المفر؟ إنها المأساة والصراع الذي يمزّق رغبات الإنسان المكبل بهواجس القنوط واليأس والشقاء, والعدمية, ويقوده الى التشاؤم المرير.

عشق الطبيعة

لا أظن أن شاعراً أحب الطبيعة أكثر مما أحبها أبو ماضي. لقد انعكس جمالها في جمال نفسه, وصفاء سمائها في صفاء ألحانه, وانعكست عذوبة مائها في عذوبة ألفاظه ودقة نواميسها في دقّة ملاحظاته, وكأن الطبيعة شعرت بصدق حبه لها, فباحت له بأسرار سحرها, وأباحت له صوغها شعراً.

كان أبو ماضي يرى في كائنات الطبيعة الأصدقاء الأوفياء له. إذ كان كلما بثّهم شكواه يجد عندهم آذاناً صاغية, وقلوباً مفتوحة واعية, وكثيراً ما كان يلتقي بأصدقائه هؤلاء إما في أماكنهم المعتادة في البرية, أو في منزل أحد الرفاق والأقرباء. وقد فُجعت عيناه ذات يوم برؤية زهرة مسجونة في إناء في أحد الصالونات الفخمة, فتألم أشد الألم لدى رؤيتها, لأنه لم يكن باستطاعته أن يخلّصها من سجنها وعذابها. فأنشد:

"لعمرك ما حزني لمال فقدته ولا خان عهدي في الحياة حبيب

ولكنني أبكي وأندب زهرة جناها ولوع بالزهور طروب

رآها يحلّ الفجر عقد جنونها ويلقي عليها تبره فيذوب"

كان يرى في الروابي جمالاً ومهابة, وفي خرير الجدول المنساب جذلاً وحبوراً, وفي المرج الخطيب بشاشة وابتسامة, وفي الوادي العميق الأغوار شعوراً بالحزن والكآبة, وكلما أرخى الليل سدوله على الكائنات, كانت عيناه تبصران ما فيها من جمال. وقد آل على نفسه أن يكون رسول الطبيعة الى البشر, ليدلهم على مواطن الجمال فيها, وليحبب إليهم العيش في أحضانها والتقرّب من كائناتها على غرار ما دعا إليه الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو.

فشاعرنا يتأمل الطبيعة, ويدرس مظاهرها, ويتتبع أسرارها, شأنه شأن كل شعراء الرابطة القلمية, فيخرج من دراسته وتأملاته بمقارنات ومقابلات وحكم شتى, أهمها أن الطبيعة صالحة تنفع جميع البشر, وتقدّم النفع لهم من دون أن تسأل, وهي لا تفرّق في تقديم نفعها بين إنسان وآخر, فيا ليت الناس يقلدون الطبيعة في العطاء. ونجد عند شاعرنا نزعة إنسانية خالصة, تسمو على كل النزعات, وروحاً عالياً يفوق كل الأرواح, إنه يحب الناس ويحب الحياة التي أوجدت الناس, ويدعوهم الى محبتها ففيها كل الخير والجمال.

أبو ماضي والحب

قبل زواجه اجتاز أبو ماضي عدداً من التجارب العاطفية القاسية, حيث كان يخرج منها في كل مرة صحيحاً سليماً, إلا تجربة واحدة فقط من بينها وهي تجربة كادت تصيب منه مقتلاً, جاعلة منه أحد الشعراء العشاق الكبار الباكين على فراق المحبوبة الظالمة, المتألمين من جراء صدّها المتعمد لهم.

وقد ظل شاعرنا فترة غير قصيرة مصدّقاً ما قالته المحبوبة له. وهو يعيش أسعد أيامه, لأنه كان يقضيها بقربها, وفجأة وجدها تتخلى عنه, تاركة إياه يندب فراقها, فيقول:

"إنما تلك أخلفت قبل ليلين من موعدي

لم تمت لا وإنما أصبحت في سوى يدي".

محبوبته هذه, جعلها عروسة قصيدته "الداليّة" وهي نفسها محبوبته هند التي جعلها عروسة قصيدته "الغابة المفقودة" حيث يحدثنا عن تلك الأيام العذبة الجميلة, والرحلات الخلوية الممتعة التي قام بها ومحبوبته الى تلك الغابات, قبل أن تصبح "في سوى يده" فيقول:

"يا لهفة النفس على غابة كنت وهنداً نلتقي فيها

أنا كما شاء الهوى والصبا وهي كما شاءت أمانيها

نباغت الأزهار عند الضحى متكآت في نواحيها

لله في الغابة أيامنا ما عابها إلا تلاشيها

طوراً علينا ظل أدواحها وتارة عطف دواليها

وتارة نلهو بأعنابها وتارة نحصي أقاحيها

وإن تضاحكنا سمعنا الصدى يضحك معنا في أقاصيه"

خصائصه الشعرية

إذا أردنا أن نتتبع خصائص شعر أبي ماضي منذ ارتبط بالرابطة القلمية, فإننا سنجد الكثير من مميزاتها عنده, فهناك الشعر التأملي الروحي الذي يغلب على مقطوعاته في ديوانه الجداول من مثل: الناسكة, نار القرى, الزمان. وغيرها. وأصبحت المادة لا تعني شاعرنا بكثير أو قليل, فهو شاعر يعيش بالروح ويهتم بالنفس.

تقسم مسيرة أبي ماضي الشعرية الى قسمين: قسم ما قبل الهجرة, وفيه لم يكن لشعره خصائص مميزة, والقسم الثاني ما بعد الهجرة, وفيه أظهر شاعريته الناضجة فكرياً, والمتحررة أسلوباً. وأهم ما نلاحظه في شعره هذا, الأسلوب الحواري, إذ نراه يخاطب أناساً يعرفهم ويأخذ منهم ويأخذون منه, كل ذلك في شعر متماسك موسيقي عذب ذي هدف.

آثاره

ـ ديوانه تذكار الماضي.

ـ الجداول.

ـ الخمائل.

المصدر: مجلة الجيش، منتدى ديوان الثقافة.

(*):

تعليق سريع: في موقف خاص وحالة ما .. قد يقول شاعر أوأديب قول ويحصل أن يتراجع عنه.

كما أنه ليس من الضرورة أن نوافق على كل قول عند النقل والتعريف وخاصة فيما يعترض مع الأحكام الشرعية.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير