[الحريري ومقاماته]
ـ[د. منذر عمران الزاوي]ــــــــ[05 - 11 - 2007, 04:04 م]ـ
قد كانت النية منذ ايام ان اطرح في المنتدى مقالة عن المقامات وماتتضمن وعمدت الى ماخزنت ادارجي من مادة جاهزة نفضت عنها غبار السنين وقلمت أظافرها واختصرت حواشيها وضممتها ضما رفيقا حتى استقامت على شكلها الحالي تعميما للفائدة وقد كان بحث الدكتورعلال الذي اورده الاخ خالد الشبل مشكورا دافعا لي لاستدعاء نشاط شارد وتحريض بال رخيّ فله فضل السبق متعه الله بالصحة , وان ماأورده من موجز القول ومختصر الكلم يسعى اكثر مايسعى الى نقل المعلومة المختصرة المفيدة وليس الى تقديم بحث موثق هذا ليس مقامه.
المقامات جمع مقامة وهي اسم للمجلس او الجماعة من الناس وسميت الاحدوثة من الكلام مقامة لانها تذكر في مجلس واحد يجتمع فيه الجماعة لسماعها ولاشك ان البديع هو السباق الى ابتكار المقامة كادب مستقل ولكن صاحب العقد وابن قتيبة يعتقدون بوجود هذا الفن وان بشكل مقتضب قبل بديع الزمان , وهذا قول لم تصلنا مادة كافية لاثبات صحته.
المقامة نوع من القصص الأدبية القصيرة التي تعتمد على الخيال في شبك حوادثها ورغم انها لاتنتمي الى فن القصة المعروف الا انها اقرب الانواع الادبية اليه , فالقصة لها اجواء خاصة وعناصر لاتتوفر في المقامة , ومما يبعد المقامة عن القصة عدم التنوع فالاشخاص هم نفسهم , والمغزى واحد , والتحليل النفسي مفقود , والحوادث تتعقد الى اقصى حد ثم تنفرج بلحظة قصيرة وكأن شيئا لم يكن , كما ان اسلوبها المقيد وزخارفها اللفظية وفوائدها اللغوية يشطان بها بعيدا عن فن القصة أو الرواية لان هدفها تعليم اللغة وسرد الموعظة ونقد الادب , أما عباراتها فتقوم على التكلف الذي يستهدف الصنعة البديعية من سجع وجناس وازدواج وطباق ومبالغة واستعارات وأشكال أخرى من الاغراب اللغوي.
الحريري هو ابو محمد القاسم بن على الحريري ولد في "مشان" قرب البصرة عام 446 هـ ونشأ بالبصرة وأخذ اللغة والعلم عن جلة من علمائها , ثم تولى عملا في ديوان الخلافة توارثه بعده اولاده , وكان فيما روي عنه دميم الخلقة بخيلا حاد الذكاء بليغا فصيحا ميالا الى الدعابة والفكاهة.
للحريري آثار نثرية وشعرية كثيرة منها كتاب "درة الغواص في أوهام الخواص" , وهو كتاب لغوي ينطق بثقافته اللغوية العظيمة , ومنها "المقامات" , وجملة من الاشعار والرسائل , واشهر مقاماته تلك التي حذا بها حذو بديع الزمان الهمذاني معترفا له بفضل السبق حيث قال في مقدمته:
"هذا مع اعترافي بان البديع رحمه الله سباق غايات وصاحب آيات وان المتصدي بعده لانشاء مقامة ولو اوتي بلاغة قدامة لايغترف من فضالته ولايسري ذلك المسرى الا بدلالته ".
بدأ الحريري بمقاماته سنة 495هـ وهو في الحادية والثلاثين من عمره , وعدة مقاماته خمسون مقامة أما طريقته في تأليف المقامة فيذكرها في مقدمته:
"وانشأت على ما أعانيه من قريحة جامدة وفطنة خامدة وروية ناضبة وهموم ناصبة خمسين مقامة تحتوى على جد القول وهزله ورقيق اللفظ وجزله , وغرر البيان ودرره , وملح الادب ونوادره الى ما وشحتها به من الآيات ومحاسن الكنايات رصعته بها من الامثال العربية واللطائف الادبية والاحاجي النحوية والفتاوى اللغوية والرسائل المبتكرة والخطب المحبرة والمواعظ المبكية والاضاحيك الملهية مما امليت جميعه على ابي زيد السروجي واسندت روايته الى الحارث بن همام البصري وما قصدت بالاحماض فيه الا تنشيط قارئيه وتكثير سواد طالبيه , ولم اودعه من الاشعار الاجنبية الا بيتين اسست عليهما بنية المقامة الحلوانية وآخرين توأمين ضمنهما خواتم المقامة الكرجية وماعدا ذلك فخاطري ابو عذره ومقتضب حلوه ومره .... ".
استطارت شهرة المقامات واستاثرت باعجاب اللغويين والادباء وشرحها كثيرون منهم: الشريشي , والرازي , والعكبري ثم ترجمت الى عدة لغات اوروبية كالانكليزية والفرنسية والالمانية.
بطل المقامات هو ابو زيد السروجي يقابل ابا الفتح الاسكندري عند بديع الزمان , ويروى عن الحريري ان أبا زيد هذا كان شحاذا هرما فصيح اللسان رآه الحريري في مسجد البصرة واعجب بفصاحته , والمقامات مروية على لسان الحارث بن همام الذي يقابل عيسى بن هشام في مقامات البديع , ويرى بعض الشرّاح انه عني بالحارث بن همام نفسه أخذا من الحديث "كلكم حارث وكلكم همام ".
اسلوب الحريري في مقاماته يشبه اسلوب البديع في تكلف السجع والاغراب الا ان اسلوب البديع ارشق لفظا واجمل وقعا واقل تكلفا وبديع الزمان اخصب خيالا واقدر على ابتكار الوقائع واستباط الملح اما الحريري فيمتاز بكثرة عنايته بالشعر وشعره أجود من شعر الهمذاني ولغته اوسع وتعابيره ادق وقد عني كثيرا بالنكت اللغوية والطرائف النحوية اظهارا لمقدرته في اللغة والنحو.
عني علماء الادب منذ زمن بعيد بالمقارنة بين الحريري والبديع ولكل انصاره والمحتجين به وهذه المقارنات لن تنتهي مثلها في ذلك مثل المقارنة بين الطائيين والمقارنة بين شعراء النقائض او المقارنة بين المتنبي وابي فراس وذلك لاختلاف طبائع الناس واذواقهم واهوائهم ومشاربهم.
¥