تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

و رابعا أنه في العصر الحديث ألف الأديب ناصف اليازجي (ت 1871م/1288ه) مقامات سماها: مجمع البحرين، حاكى فيها الحريري-في مقاماته- شكلا و مضمونا، على الرغم ما بينهما من زمن طويل [73]. و قد حازت مقاماته الخصائص الحريرية [74] و تفوقت عليها في جوانب عديدة، منها: إنها أكثر منها عددا [75]، وأغزر من حيث وفرة الآيات القرآنية، و أوفر نصيبا من الألغاز النثرية و الألعاب البلاغية، قلّد فيهاالحريري، و زاد عليه و أبدع فيها [76]؛ مها: القلب-مالا يستحيل بالانعكاس [77]- و هو عزيز الوجود في أشد الآثار الأدبية محافظة، و في أوغلها تكلفا و صناعة. استعمله اليازجي و تفوق فيه على الحريري، و شق على نفسه حتى جادت قريحته بأربعة عشر بيتا، كلها لا تستحيل بالانعكاس، في حين لم يستطع الحريري أن يأتي من أكثر من خمسة أبيات، و ليست في جودة أبيات اليازجي الذي أبدى كذلك مهارة عالية في النحو-مجال تخصصه- وبذّ فيه الحريري [78].

و خامسا أن دراسات حديثة متخصصة بينت نقائص [79] كثيرة في مقامات الحريري، منها: التكلف الظاهر في استعمال الغريب،و الإسراف فيه،و الإفراط اصطناع المجاز، حتى جفت عباراتها و قل ماؤها،و عسر مساغها [80].و ظهرت فيها-احيانا-برودة و غثاثة في طلب السجع و الجناس [81]، كما في L( و استعنت بقاطبة الكتاب، فكل منهم قطب و تاب))، فجرت قاطبة لأجل الجناس و السجع، و هي لاستعمل إلا منصوبة على الحال، و وضع فعل تاب في غير موضعه، فبدا نافرا متقلقلا [82]. و جاءت قصصها خالية من الأغراض متشابهة المواضيع محدودة الخيال، وكثيرة الغموض و التعقيد، لا يسلم مطالعها من السأم و الضجر [83].

و منها أنه تبين من مقارنة مقامات الحريري بمقامات بديع الزمان الهمذاني، أن البديع تفوق عليه في فن الإضحاك، الحيل، المدح،و التشبيه، السجع و الجناس،و الاقتباس. كما أنه استطاع أن يجمع بين المضمون في أحيان كثيرة، و جاءت أسجاعه حارة معبرة قوية تخدم المعاني، و لم تكن باردة و لا ثقيلة،و لا ركيكة. و أما الحريري فقد انشغل بالتزويقات اللفظية،و الصور الغريبة، فجاءت أسجاعه أثقل موقعا، و أغرب مخرجا،و أضعف تعبيرا عن المعاني [84]. و أما تجنيساته فهي غير مقبولة في كثير من الأحيان، لتعثر معاني ألفاظها، وصدورها عن تكلف و عنت، لا عن طبع، حتى أنه استعمل كلمة الدّست [85] أربع مرات في موضع واحد من أجل التجنيس،و هو شيء ((لا نظير له ركاكة و ثقلا و برودة في الأدب العربي،و قد حمّل الجناس في هذه الفقرة ما لا يحتمل،و جشمه- كلّفه- ما لا يطيق عليه))، لأنه لم يكن يأبه بركاكة أسلوبه، إذا استقامت التجنيسات المتتالية [86]. كما أنه أغرق قي استعمال الغريب من الألفاظ، فغربت معانيها و اضطربت اضطرابا شديدا، فهو و إن كان يقصد بذلك أن يرينا أنه قادر على أن يأتينا بما لم يأت به الأوائل، فقد أخطأ و حرم التوفيق، لأن ((عبقرية الأدباء لا تتفاوت في الإغراب و التعمية على الأفهام،و التضليل على العقول، و لكن عبقريتهم تتفاوت في القدرة على الإفهام،و حسن التبيين، و جودة التصوير،و سهولة التعبير)) [87].

و يستنتج مما ذكرناه عن نقد ابن الخشاب لمقامات الحريري،أنه يعد رائد نقاد المقامات في عصره دون منازع، لانتقاده العميق و الموسع لمقامات الحريري؛ و قد جاءت الدراسات المقامية الحديثة مكملة لعمله في إظهار نقائصها الكثيرة- شكلا و موضوعا- و تمزيقا للهالة التي أحيطت بها. كما أن ما قام به ابن الخشاب هو عمل انفرد به في المدرسة الحنبلية، إذ لم أعثر على أي عالم حنبلي آخر تصدى لنقد المقامات الحريرية على طريقته؛ على الرغم من أن النقد العلمي عند علماء الحنابلة قد شمل علوما كثيرة، و مس مختلف طوائف العلماء.


¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير