ومن الناس من يعطونه بفرح و فرحهم مكافأة ومنهم من يعطونه بألم و ألمهم معمودية لهم
و هنالك الذين يعطون ولا يعرفون معنى الألم في عطائهم و لا يتطلبون فرحا و لا يرغبون في إذاعة فضائلهم هؤلاء يعطون مما عندهم كما يعطي الريحان عبيره العطر في ذلك الوادي ..... جميل أن تعطي من يسألك ما هو في حاجة إليه ولكن أجمل من ذلك أن تعطي من لا يسألك و أنت تعرف حاجته ... فإن من يفتح يديه و قلبه للعطاء يكون فرحه بسعيه إلى من يتقبل عطاياه و الاهتداء إليه أعظم منه بالعطاء نفسه.
وقد طالما سمعتك تقول متبجحاً: إنني أحب أن أعطي و لكن المستحقين فقط
فهل نسيت يا صاح أن الأشجار في بستانك لا تقول قولك و مثلها القطعان في مراعيك؟
فهي تعطي لكي تحيا لأنها إذا لم تعط عرضت حياتها للتهلكة.
الحق أقول لك إن الرجل الذي استحق أن يقتبل عطية الحياة و يتمتع بأيامه و لياليه هو مستحق لكل شيء منك.
و أنت من أنت حتى أن الناس يجب أن يمزقوا صدورهم و يحسروا القناع عن شهامتهم و عزة نفوسهم لكي ترى جدارتهم لعطائك عارية و أنفتهم مجردة عن الحياء؟
أما أنتم الذين يتناولون العطاء و الإحسان و كلكم منهم فلا تتظاهروا بثقل واجب معرفة الجميل لئلا تضعوا بأيدكم نيراً ثقيل الحمل على رقابكم و رقاب الذين أعطوكم بل فلتكن عطايا المعطي أجنحة ترتفعون بها معه .. لأنكم إذا أكثرتم من الشعور بما أنتم عليه من الدين فإنكم بذلك تظهرون الشك و الريبة في أريحية المحسن.
فى حديثه عن العمل
(إنكم تشتغلون لكي تجاروا الأرض و نفس الأرض في سيرها لأن الكسول غريب عن فصول الأرض و هائم لا يسير في موكب الحياة السائرة بعظمة.
قد طالما أخبرتم أن العمل لعنة والشغل نكبة ومصيبة .. أما أنا فأقول لكم إنكم بالعمل تحققون جزءاّ من حلم الأرض البعيد جزءاً خصص لكم عند ميلاد ذلك الحلم .. فإذا واظبتم على العمل النافع تفتحون قلوبكم بالحقيقة لمحبة الحياة .. لأن من أحب الحياة بالعمل النافع تفتح له الحياة أعماقها و تدنيه من أبعد الأسرار.
قد ورثتم عن جدودكم القول إن الحياة ظلمة فرحتم في عهد مشقتكم ترددون ما قاله قبلكم جدودكم المزعجون ... فالحق أقول لكم إن الحياة تكون بالحقيقة ظلمة حالكة إذا لم ترافقها الحركة و الحركة تكون عمياء لا بركة فيها إن لم ترافقها المعرفة والمعرفة تكون عقيمة سقيمة إن لم يرافقها العمل والعمل يكون باطلاً و بلا ثمر إن لم يقترن بالمحبة لأنكم إذا اشتغلتم بمحبة فإنما تربطون أنفسكم و أفرادكم بعضها ببعض و يرتبط كل واحد منكم بربه.
حديث عن الثياب
(إن ثيابكم تحجب الكثير من جمالكم ولكنها لا تستر غير الجميل و مع أنكم تنشدون بثيابكم حرية التستر و الانفراد , فإنها تفسدكم و تستعبدكم ويا ليت في وسعكم أن تستقبلوا الشمس و الريح بثياب بشرتكم عوضاً عن ثياب مصانعكم .. لأن أنفاس الحياة في أشعة الشمس , ويد الحياة تسير مع مجاري الرياح.
لا يغرب عن أذهانكم أن الحشمة هي ترس منيع متين للوقاية من عيون المدنسين .. فإذا زال المدنسون من الجود , أفلا تصير الحشمة قيداً للفكر و تلويثاً له في حمأة العبودية؟
حديث عن الحرية
(قد طالما رأيتكم ساجدين على ركبكم أمام أبواب المدينة و إلى جوانب المواقد تعبدون حريتكم و أنتم بذلك أشبه بالعبيد الذين يتذللون أمام سيدهم العسوف الجبار يمدحونه و ينشدون له وهو يعمل السيف في رقابهم ... نعم , وفي غابة الهيكل وظل القلعة كثيراً ما رأيت أشدكم حرية حمل حريته كنير ثقيل لعنقه و غل متين ليديه و رجليه ..
رأيت كل ذلك فذاب قلبي في أعماق صدري و نزفت دماؤه لأنكم لا تستطيعون أن تصيروا أحراراً حتى تتحول رغبتكم في السعي وراء الحرية إلى سلاح تتسلحون به و تنقطعوا عن التحدث بالحرية كغايتكم و مهجتكم.
إنكم تصيرون أحرار بالحقيقة إذا لم تكن أيامكم بلا عمل تعملونه و لياليكم بلا حاجة تفكرون بها أو كآبة تتألمون ذكراها ... بل تكونون أحراراً عندما تنطق هموم الحياة و أعمالها أحقاءكم بمنطقة الجاد و العمل و تثقل كاهلكم بالمصاعب و المصائب و لكنكم تنهضون من تحت أثقالها غزاة طليقين ... لأنكم كيف تستطيعون أن ترتفعوا إلى ما فوق أيامكم و لياليكم إذا لم تحطموا السلاسل التي أنتم أنفسكم في فجر إدراككم قيدتم بها ساعة ظهيرتكم الحرة؟
ألا إن ما تسمونه حرية إنما هو بالحقيقة أشد هذه السلاسل قوة و إن كانت حلقاته تلمع في نور الشمس و تخطف أبصاركم ..
إن كانت طاغية تودون خلعه عن عرشه فانظروا أولاً إن كان عرشه القائم في أعماقكم قد تهدم لأنه كيف يستطيع طاغية أن يحكم الأحرار المفتخرين ما لم يكن الطغيان أساسا لحريتهم و العار قاعدة لكبريائهم؟
الحق أقول لكم إن جميع الأشياء تتحرك في كيانكم متعانقة على الدوام عناقاً نصفياً: كل ما تشتهون و ما تخافون وما تتعشقون وما تستكرهون وما تسعون وراءه وما تهربون منه
جميع هذه الرغبات تتحرك فيكم كالأنوار و الظلال , فإذا اضمحل الظل ولم يبق له من أثر أمسى النور المتلألئ ظلاً لنور آخر سواه وهكذا الحال في حريتكم إذا حلت قيودها أمست هي نفسها قيداً لحرية أعظم منها.
فى النهاية
وحتى نلتقى مع الجزء الثانى من نماذج من نثر جبران أسأل الله أن ينفعنا جميعا.
سيد يوسف
¥