فقال له عبيد: يا هذا المخاطب: نشدتك الله إلا أخبرتني من أنت، فأنشأ يقول:
أنا الشّجاع الذي ألفيْتَه رَمِضاً === في قفرةٍ بين أحجارٍ وأعقادِ
فَجُدْتَ بالماء لما ضَنَّ حامُله === وزِدتَ فيه ولم تبخل بإِنكادِ
الخيرُ يبقى وإن طال الزمانُ به === والشرُّ أخبثُ ما أوْعيتَ من زادِ
فركب البكر،وجنب بكره وسار فبلغ أهله مع الصبح، فنزل عنه، وحل رحله وخلاه، فغاب عن عينه، وجاء من سلم من القوم بعد ثلاث " (19).
ونجد من الأدباء من اعتقد هذا الأمر، كابن دريد (ت 321 هـ) الذي وضع في جمهرته فصلا سماه " شياطين الشعر" (20). ومثله فعل الجاحظ في كتاب الحيوان، وذكر في ذكر قول محمد بن السكن:" بنت عَمْرٍو وخالها مِسحل الخير === وخالي هُميمٌ صاحب عَمْرِو
فإنهم يزعمون أنّ مع كلِّ فحل من الشعراء شيطاناً يقول ذلك الفحلُ على لسانه الشعر، فزعم البهراني أنّ هذه الجنّية بنت عمرو شيطان المخبَّل، وأن خالها مِسْحل شيطان الأعشى، وذكر أن خاله هُمَيم، وهو همّام، وهمّام هو الفرزدق، وكان غالبُ بن صعصعة إذا دعا الفرزدق قال: يا هميم، وأما قوله: صاحب عمرو فكذلك أيضاً يقال إن اسم شيطان الفرزدق عمرو" (21).
وذكر الجاحظ في بيانه أن بعضُ الشُّعراء قال لرجُلٍ:" أنا أقولُ في كلِّ ساعةٍ قصيدةً، وأنت تَقرِضُها في كلِّ شهرٍ فلم ذلك؟ قال: لأنِّي لا أقبل من شيطاني مثلَ الذي تقبَلُ من شيطانِك " (22).
وذكر الأصفهاني أنه:" اجتمع ابن منادر وأبو العتاهية، فقال أبو العتاهية: كم بيتاً تقول في اليوم؟ قال: مقدار عشرة أبيات. فقال أبو العتاهية: فأنا أقول مئتين. فقال: فإنك تقبل من شيطانك نحو:
ألا يا عتبة الساعه === أموت الساعة الساعه
ولو أني أقول مثل ذلك لقلت ألوفاً " (23).
وهناك الكثير من النماذج التي لا يتسع المقال لذكرها، وفيما مضى كفاية لشيء مما جاء عن الشعراء في العصور القديمة حول قضية شياطين الشعر، نستطيع أن نخلُص منها إلى أن اعتقادهم التام بأن شيطان الشعر موجود باعترافاتهم، ولكن التساؤل الحائر هنا ألا يعني اعترافهم بوجود القرين معهم تقليلاً من شاعريتهم، وطعنًا في فحولتهم، لأنهم سيكونون مجرد رواة للشعر، ونقلة للنظم؟!! وإذا كان هناك توجيه يمكن الاستئناس به، فهو أن العرب إذا أعجبهم الشعر سألوا ناظمه للطرافة، أو المجاملة المحمودة: من شيطان شِعرك؟ فيُجيبهم مستطرفاً أيضاً: شيطاني هو فلان بن فلان. ثم يذكر اسماً غريباً؛ لشعوره أن سؤال الناس إياه طعن في فحولته، ونقص من قدره، لجعلهم الشريك الخفي معه، والذي يشاطره الإبداع، فلما كان هذا احتالَ الشعراء لأنفسهم.
ولكن هل في الشرع ما ينافي حقيقة وجود القرين الشعري لبعض الشعراء،فيقولون لهم الشعر ويعينونهم عليه، فأنا أرى – والله أعلم- أن لبعض الشعراء قرناء، ولا أرى ما يعارضه في الشرع، فقد قال الله تعالى:" وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ " [البقرة: 14]. والشياطين يوحون لأوليائهم من الإنس كما قال تعالى: (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ ليجادلوكم) [الأنعام: 121]. وقد جاء في صحيح مسلم عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ بَيْنَا نَحْنُ نَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِالْعَرْجِ إِذْ عَرَضَ شَاعِرٌ يُنْشِدُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- " خُذُوا الشَّيْطَانَ، أَوْ أَمْسِكُوا الشَّيْطَانَ، لأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ رَجُلٍ قَيْحًا خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا " (24).وفي قوله عليه الصلاة والسلام:"خذوا الشيطان" يساند ما أميل إليه "أن لبعض الشعراء شياطين" لأن الذي قال الشعر ربما كان هو شيطان ذاك الشاعر وليس هو،فكرهه الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولا ننسى اعتراف حسان بن ثابت التي ذكرناها آنفاً؛ بأنه يتناوب هو وشيطانه في قول الشعر، ومما يدعم هذا الكلام أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- سمع الشعر واستنشده، فقد جاء في صحيح مسلم: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ رَدِفْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمًا
¥