فَقَالَ:" هَلْ مَعَكَ مِنْ شِعْرِ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِى الصَّلْتِ شَيْئًا ". قُلْتُ: نَعَمْ قَالَ: " هِيهِ ". فَأَنْشَدْتُهُ بَيْتًا فَقَالَ: " هِيهِ ". ثُمَّ أَنْشَدْتُهُ بَيْتًا فَقَالَ: " هِيهِ ". حَتَّى أَنْشَدْتُهُ مِائَةَ بَيْتٍ. (25). وما استزادة الرسول -صلى الله عليه وسلم- من شعر أمية إلا دليل إعجاب، ورغبة في السماع.
وفي بلاد العرب الواسعة أماكن كثيرة اشتهرت بإلهام الشعراء، منها:" زَرُود، وعبقر، ووادي الأرواح" فلافظ بن لاحظ شيطان امرئ القيس، وهَبِيد بن الصَّلادم شيطان عبيد بن الأبرص الأسدي، وعنتر بن العجلان شيطان طرفة بن العبد، وهادر شيطان النابغة الذبياني، وأبا الخطار شيطان قيس بن الخطيم، ومُدرِك بن واغم شيطان الكميت بن زيد يسكنون في رمال زرود.
وهناك فئة من شياطين الشعراء يسكنون بلاد عبقر وهم كُثُر. وفئة ثالثة من شياطين الشعراء يسكنون في وادي الأرواح، وهم: حسين الدَّنَّان شيطان أبي نواس، وعتَّاب بن حبناء شيطان أبي تمام، وأبو الطبع شيطان البحتري، وحارثة بن المُغَلِّس شيطان المتنبي. (26).
وشهرة بلاد زرود بإلهام الشعراء قديمة حتى إن شهرتها معروفة في كل بلد، ومن رغب في قول الشعر فما عليه إلا أن يتجه إلى زرود، ويقيم فيها، يشرب من لبن الظباء، كما فعل المروزي، وهو أحد الراغبين في قول الشعر، حيث يقول:" خرجت على بعير لي صعبٍ، يمر بي لا يملكني من أمر نفسي شيئاً، حتى مرَّ على جماعة ظباءٍ في سفح جبل على قلته رجلٌ عليه أطمارٌ له، فلما رأتني الظباء هربت، فقال: ما أردت إلى ما صنعت؟ إنكم لتعرضون بمن لو شاء قدعكم عن ذلك (أي: منعكم) قال: فدخلني عليه من الغيظ ما لم أقدر أن أحمله، فقلت: إن تفعل بي ذلك لا أرضى لك، فضحك، ثم قال: إمض عافاك الله لبالك، قال: فجعلت أردد البعير في مراعي الظباء لأغضبه، فنهض وهو يقول: إنك لجليد القلب! ثم أتاني فصاح ببعيري صيحةً ضرب بجرانه الأرض، ووثبت عنه إلى الأرض، وعلمت أنه جان، فقلت: أيها الشيخ! إنك لأسوأ مني صنيعاً. فقال: بل أنت أظلم وألأم، بدأت بالظلم، ثم لؤمت في تركك المضي، فقلت: أجل! عرفت خطئي. قال: فاذكر الله فقد رعناك، وبذكر الله تطمئن القلوب، فذكرت الله تعالى، ثم قلت دهشاً: أتروي من أشعار العرب شيئاً؟ فقال: نعم! أروي، وأقول قولاً فائقاً مبرزاً. فقلت: فأرني من قولك ما أحببت، فأنشأ يقول: البسيط
طافَ الخيالُ علَينا لَيلةَ الوادي، === من آلِ سَلمى ولم يُلمِمْ بميْعادِ
أنّى اهتَديتَ إلى مَن طالَ لَيلُهُمُ === في سَبسبٍ ذاتِ دَكْدَاكٍ وأعقادِ
يُكَلِّفُونَ فَلاها كلَّ يَعْمَلَةٍ === مثلَ المَهاةِ، إذا ما حَثَّها الحادي
أَبلِغْ أبا كَرَبٍ عنّي وأُسْرَتَهُ === قولاً سَيَذهَبُ غَوراً بعدَ إنجادِ
لا أعرِفَنَّكَ بَعْدَ اليَومِ تَندُبُني === وفي حَياتيَ ما زَوَّدْتَني زادي
أمَّا حِمامُكَ يوماً أنتَ مُدرِكُهُ === لا حاضرٌ مُفلِتٌ منهُ، ولا بادِ
فلما فرغ من إنشاده قلت: لهذا الشعر أشهر في معد بن عدنان من ولد الفرس الأبلق في الدهم العراب هذا لعبيد بن الأبرص الأسدي، فقال: ومن عبيد لولا هبيد! فقلت: ومن هبيد؟ فأنشأ يقول: المتقارب
أنا ابنُ الصّلادِمِ أُدعى الهبيدَ، === حبَوتُ القَوافيَ قَرْمَيْ أسَدْ
عَبيداً حَبَوتُ بمأْثُورَةٍ، === وأَنْطَقْتُ بِشراً على غَيرِ كَدّ
ولاقَى بمُدرِكَ رَهطُ الكُمَيتِ === مَلاذاً عَزيزاً ومَجداً وَجَدّ
مَنحاناهُمُ الشِّعرَ عن قُدرَةٍ === فهَل تَشْكُرُ اليَومَ هذا مَعَدّ
فقلت: أما عن نفسك فقد أخبرتني، فأخبرني عن مدرك، فقال: هو مدرك بن واغم، صاحب الكميت، وهو ابن عمي، وكان الصلادم وواغم من أشعر الجن، ثم قال: لو أنك أصبت من لبنٍ عندنا؟ فقلت: هات، أريد آلأنس به، فذهب فأتاني بعسٍّ فيه لبن ظبي، فكرهته لزهومته – أي: رائحته المنتة- فقلت: إليك، ومججت ما كان في فمي منه، فأخذه ثم قال: إمض راشداً مصاحباً! فوليت منصرفاً فصاح بي من خلفي: أما إنك لو كرعت – أي: شربت بفيك - في بطنك العس لأصبحت أشعر قومك. قال أبي: فندمت أن لا أكون كرعت عسه في جوفي على ما كان من زهومته" (27).
¥