وهذا مظعون بن مظعون الأعرابي قصد زرود وأقام بها يطلب الشعر، فمر به رجل على راحلته فاستضافه، ولما أقام الرجل عنده سأله مظعون عن شياطين الشعراء، فقال الرجل:
بِتُّ عند واحد منهم ليلة البارحة في ناحية من زرود، وقد أنشدني لامرئ القيس، والنابغة، وعبيد والأعشى، ولما فرغ من إنشاد قصيدة للأعشى قلت: لقد سمعت بهذا الشعر منذ زمن طويل، قال: للأعشى! قلت:نعم، قال: فأنا صاحبه، قلت: فما اسمك؟ قال: مسحل السكران بن جندل.
وذكر مطرف الكناني:أنه استمع إلى رجل من أهل زرود يقول: استمعت إلى لافظ بن لاحظ وهو ينشد:
قِفا نبك من ذكرى حبيبٍ ومنزلٍ=== بسقط اللوى بين الدخولِ فحومل
فهؤلاء وغيرهم عرفوا زرود بأنها موطن الشعر ومقر شياطينه. (28). وشهرة زرود وصلت إلى الخلفاء والأمراء، فكان الرشيد إذا حج يسأل عن زرود، فإذا وصل إليها أقام بها واستمع إلى الشعر والشعراء فيتذاكر الشعر مع من يحضر مجلسه، وقد قال في زرود وهو يجتازها:
أقولُ وقد جُزنا زرودَ عشيّةً ===وراحت مطايانا تؤمُّ بنا نجدا
على أهل بغدادَ السلامُ فإنني=== أزيدُ بسيري عن بلادهم بُعدا" (29)
أما وجود القرين بشكل مطلق مع الإنسان فهذه حقيقة لا يختلف عليها، ولامجال للتشكيك فيه؛ لأنه مذكور في القرآن، في قوله تعالى:" قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ". [ق:27] , والقرين في الآية مقصود به الشيطان الموكل به في الدنيا، كما جاء ذلك في تفسير الطبري (310 هـ) من قول ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، ومعمر، والضحاك، وقال ابن زيد في قوله (قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ) قال: قرينه من الجنّ: ربنا ما أطغيته، تبرأ منه" (30).وجاء في السنة من حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-:" مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنَ الْجِنِّ ". قَالُوا وَإِيَّاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ:" وَإِيَّاىَ إِلاَّ أَنَّ اللَّهَ أَعَانَنِى عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ فَلاَ يَأْمُرُنِى إِلاَّ بِخَيْرٍ ". (31).
أما أصل التسمية بـ" شياطين الشعر" فإنها جاءت من كلمة " شطن"أي: نزع، والشاطن هو ذو الشطن، الذي ينزع الماء من البئر الشطون، والبئر الشطون بئر بعيدة القعر، وهذا الشاطن أو المشاطن، رجل شديد الجذب، نشيط النَّزْع، فحركة تراوح ذراعيه في جذب شطن الدلو، وسرعة انحناء ظهره ورفعه إياه شديدتان لا تفترتان، كأنه في سباق فلذلك قيل له: (هو الشيطان)، والشيطان مبالغة من (الشاطن)، وصيغة (فَيْعال) صيغة لم يذكرها النحاة في صيغ المبالغة. فيقال: وهذا شاطنٌ للماء، وهذا شيطانٌ للماء، ثم جاز لفظ (الشاطن) وهو ذو الشطن الذي ينزع ماء البئر إلى معنى كل عاتٍ من الجن مجازاً من الاستعارة التصريحية لجامع شدة النزع والجذب وسرعة حركة الذراعين. قال أمية بن أبي الصلت (ت 5 هـ) في سليمان عليه السلام:
وأيُّما شاطنٍ عصاه عكاه === ثم يلقى في السجن والأغلال
وعكاه: شدّه وقيّده.ثم جاز الشاطن مجازاً من طريق الاستعارة التصريحية من معنى المارد من الجن إلى معنى الخبيث والبعيد عن الحق من الناس لجامع سوء السريرة فيهما.
وكذلك كان حال لفظ (الشيطان)، إذ جاز من طريق الاستعارة التصريحية من معنى نزاع شطن الدلو وجذَّابه، إلى معنى كل عاتٍ ومتمرد من الجن لجامع سرعة الحركة والجذب فيهما، ثم جاز لفظ الشيطان إلى معنى (الخبيث من الناس) لجامع سوء السريرة مع الشيطان من الجن، ثم غلب لفظ الشيطان اسماً علماً على إبليس لعنه الله تعالى.ثم اشتقوا من الشيطان الذي هو مارد الجن الفعل فقالوا: (تشيطن الرجل) أي فعََل فِعل الشيطان.
ثم اختلط معنيا لفظ (الشيطان) المجازيان وهما معنى نزّاع الكلام المنظوم من جوف الإنسي من جهة الاستطراف، ومعنى المتمرد والعاتي من الجن حتى صارا معنىً واحداً،ولما غلب لفظ الشيطان على المارد من الجن، فقد غلب على الظن أن (شيطان الشعر) من الجن أيضاً، وإن كان أصل سؤال الاستطراف يوجب أن يكون (شيطان الشعر) من الإنس لا من الجن؛ لأن الشيطان الذي يراد به معنى (نزّاع الماء) هو في حقيقته إنسان يقف على رأس الشعر (البئر) ليشطن الشعر أي (الماء). والله تعالى أعلم.
¥