ـ[السراج]ــــــــ[06 - 01 - 2010, 06:05 م]ـ
أطاعته أطراف القنا وتقوّضتْ=لنجواه تقويضَ الخيامِ الجحافلُ
البيت لأبي تمام، يصف القلم
(وهذا البيت حيّرني، فالكلام يكادُ يملئ صفحاتٍ حوله، لكني في النهاية حذفتُ المهم وتركتُ الأهم)
دلالة الفعل على مضي الفعل يعني (الأمر محسوم) بلا تردد، والطاعة أصلاً من الإنسان، أما هُنا شيءٌ آخر فذكر أن الرماح تطيعُ القلم – نعم القلم -! وهل الرماحُ تطيع؟
أراد الجيوش الكثيرة والرماح أدواته أو جزء من أدواته .. في مجاز مرسل (علاقته الجزئية).
فالمعركة محتدمة بين طرفين والسيوف في تلاحم والرماحُ في لقاء الأجساد من شدّة المعركة (هكذا التصور الطبيعي لهذه العبارة)، فأتى القلم وأطاعته. وأتى بجزء من الرمح وهو الجزء القاتل – طرف الرمح الحديدي. واقرأ كيف يعبّر عن الكل بالجزء.
طرف القنا – الرمح – المقاتل – الجيش – الجيوش. وهذا ما أرادنا أن نصلَ إليه أن الجيوش أطاعته فعبّر أن أطرف القنا هي التي أطاعته؛ فبرع لأنها هي أدوات القتال وإلا ما كانت هُناك غلبة وانتصار بدونها! لله درّه.
وكانتْ – لفظة – أطراف القنا دالّة على كثرة الجيوش، وكثرة الأطراف المتحاربة، وكلها تنسحب طوعاً (ستجد كلمة أقوى) أو طاعةً بأمر القلم.
وساعدته براعته المعهودة وحسّه الفني وخبرته – وهو المعروف – في صفّ الكلمات زاهيةً في مكانها، فما لفظة (تقوّضت) إلا هُنا وكأنها أو وكأن الصورة التي أرادها (حفلة تنكّر) تسترقُ الجحافلُ والجيوش الأنظار بتمثيل دور الخيام في سقوطها المفاجئ.
وانظر كيف يمزجُ فنون البلاغة مزجاً في سكينة وهدوء (رغم ما صاحب الكلمات من دويّ السقوط) حتى تتحيّر في تصنيفها، فيمزج بين التشبيه التمثيلي والتشبيه الضمني في لون جذّاب بتشكيل رائع (ولو أني أميلُ للاستعارة المكنية أكثر).
وبالغَ في انتقاء كلماتُ الجمال – المعبّرة حقاً – فأخذَ لفظة (لنجواه) وأرادها صفة من صفات القلم (وهي صفة حقيقية له) - على الرغم أنه اختار السرّ والنجوى، فقد يكون أراد أنه في هدوء فمعروف عن القلم الصمت وهي هذه النجوى - وعلى ذلك فكأنه يصوّر القلم رجلاً يسرُّ للجيوش (الخيام) بسرّ فتنهارُ وكأنها سمعتْ شيئاً أربكها وأخزنها فخرّتْ لا وجه لها وأُرجعت وكأنها لم تكن .. هكذا الجيوش!
على الرغم أنه اختار السرّ والنجوى، فقد يكون أراد أنه في هدوء فمعروف عن القلم الصمت وهي هذه النجوى.
ثم مرةً أخرى يضيف نكهته – وولعه بالتلاعب بالألفاظ – ويؤكد من نافذة ذلك على قوةِ القلم، فساقَ الجيوش تترى، جيوشاً إثر جيوش (لفظة جحفل) فما بالك بالجحافل.
ـ[السراج]ــــــــ[17 - 01 - 2010, 08:26 م]ـ
سارت سفائنهم والنوح يصحبها=كأنها إبل يحدو بها الحادي
ابن اللبانة
في نفي بني عباد وكان صديقا للمعتمد بن عباد، كان ملكاً واليوم أسيرا وها هي السفن تنقله إلى أغمات، من القصور المنيفة في أشبيلية إلى أسر السلاسل المثقلة في أغمات.
وأبناؤه الذين عرفوا رغد الحياة الآن يعرفون شيئاً آخر، بؤسها ...
البيت يصوّر مشهد خروج أو (إخراج) المعتمد وذويه من أشبيليه بحراً إلى أغمات.
وساق ابن اللبانة قبل هذا البيت جواهر تشعّ نوراً قوامها الكلمات الشفافّة التي تعكس ما عند أختها من ضياء فتغدو القصيدة متداخلة الألوان (متداخلة الجمال).
ذكر أعمالهم وما آلوا إليه، وبدأ يستظهر تنافر الحياة فيهم واختلاف أشكالها فجأة.
فحان الوداع ...
وسارت سفائنهم والنوح يتبعها
لازال شاعرنا متشبثٌ بفكرة ملكية المعتمد على الرغم من أسره وتقييده، فما زال ينسب السفن إليهم. بل ويكثرها ويزيد .. (سفائن)، ماذا أراد أن يوصل ابن اللبانة من ذلك؟
ألكثرة حاشية المعتمد، أبناؤه وأحفاده وأهله .. ؟
أم أراد المنتصرون تشتيتهم في أكثر السفن ليزداد العذاب؟
فسارت سفائنهم ..
وهذه الجموع (جموع النمل) الكثير غير المحصور ترقبُ وتبكي وتذرف الدموع حُزنا، وكما عبّر للسفائن بالكثرة (صراحةً)، حفَرَ الكثرة لهؤلاء الناس التي وسمهم الحزن حفرها (ضمناً) ولم يذكر بل أبدع وابتكر في التصوير الفني ..
فهم تشبثوا بالسفائن حين سارت، وساروا معها ولحقوا بها وكانت حبالهم التي علقت بتلك السفائن (النوحُ). فما أن تزامنت لفظة (يتبعها) إلا وأدركت العقول الكثرة الغالبة من النائحات هُناك في الشط المقابل، وكأن هذا النوح ريحٌ أو موجٌ أو سفينةٌ أخرى أو مجموعة سباحون تخيل ما شئتَ فالصوتُ هنا تحوّل لشيء ملموس يتبع السفينة كي تؤنس من بها من الأسرى.
وهذه الصورة الجميلة الرائعة جعلتْ شاعرنا يفتّش في أوراقه القديمة ودفاتره المهترئة عن صورة قديمة لم تُظهر التاريخ وغابت معالم الأشخاص (مكوناتها) فكانت تختفي شيئاً فشيئاً، وجد أن القوافل تكونُ الجمال أمام سائقها، وكان سائقها يحدو بلحنٍ حزين تسلية لنفسه وتشجيعاً للإبل، فكان صوته (يتبع) أو هذه الإبل بلحنه الشجي.
هُنا استعاره الشاعر ليصنع تشبيهاً تمثيلياً لما رآه من مشهد الرحيل فكانت السفائن (قوافلاً) في كثرتها، وكان (النواحُ) حداءً في حزنه ..
¥