ـ[السراج]ــــــــ[20 - 01 - 2010, 01:11 م]ـ
لشاعر العربية ..
ومن قصيدة موسيقية رائعة تجسّد سهولة الوزن من خلال حُسن اختيار الألفاظ (الموسيقية) وقد جعلها تخفت في وقف حرف النون وكأن الحروف تصطدم بجدار السكون الثابت.
وهي قصيدة مدحية رائعة لكن أبا الطيب طرزها بحروفه المعتادة ونكهته الخالصة وألفاظة المتحركة في أنساق منتظمة كالقوافل تماما أو كأسراب النورس.
وبدأ قصيدته – كالعادة – بغزله النادر.
وذا البيت عنوانها ومعلمها ..
وهو بشكل عام أو كقراءة أولى عتاب شفيف لقلبه أو تشبث بخيوط بقائه.
وإن سبرنا أغواره وتوغلنا في غابات الأحرف عند المتنبي ظهرت لنا روابي معانيه الفذة شاخصة.
أتظعنُ يا قلبُ مَعْ مَن ظَعنْ=حبيبينِ .. أندبُ نفسي إذنْ
كأن شاعرنا تتعلق عبراته وهو يخاطب قلبه الذي رآه لا يطاوعه ويكاد يمتزج تعلقه هذا بعتاب حزين، بل وقرن ذلك بلفظة البعد المحببة المحزنة (الظعن) و (الظعينة).
فهو يطلق سؤال اليائس واستفهام المتعجب من أمر قلبه الذي أراد السفر مع محبوبته تاركا شاعرنا في خضم الحزن والتحير والتعجب والاستفهام، فعجن ذلك كله في قالب وجداني فتكون الفعل المزيج الموجه لقلبه الوله (أتظعن).
ثم أراد لين الجرس فأضاف حرف النداء الممتد.
أما براعة شاعرنا - فتظهر عجيبا في عبارة (مع من ظعن) حيث لم يسمي محبوبته .. وكأنه العبقري أرادها كما (أرادت اللفظة أن تُبين عن نفسها أو تُخفي نفسها) ظعينة في هودجها بعيدا عن الأعين. فكنى بلفظة الحقيقة.
ما أجمل الشعر حين يكتسي بكل معالمه: الشعور والخيال والموسيقى بإيقاعه ووزنه وأكاد أجزم أن المتنبي نثر ذلك كله في بيته الأول، زخم المعاني والألفاظ. فما أن تنطلق في قراءة (حبيبين) حتى تجد نفسك تقف في نسق موسيقي بعدها كي تستعيد أنفاسك ويستعيد شاعرنا روحه تهيئا للفقد، للحزن، للندب.
ولديه الكثير ليقوله قبلها فآثر أن يترك ذلك مساحة للقارئ وكذلك بعدها .. فهناك حيث دفن فعلاً عرف أننا سوف ننبشه أو حتى التعرف على شبيه وما نصبُ (حبيبين) إلا علامة لذلك ..
ويصل في نهاية بيته إلى تأكيد حزنه وحتمية ندبه لنفسه فماذا يبقى إن ذهب قلبه؟!
ـ[السراج]ــــــــ[25 - 01 - 2010, 05:56 م]ـ
(تنسيق البيت الشعري لم يعمل، هل المشكلة في المنتدى؟)
والظلمُ من شيمِ النفوس ولو **** ترى ذا عفة فلعلّة لا يظلمُ
قد يرى البعضُ أن أبا الطيب بالغَ في التعبير عن فكرته التي تشبّث بها حين أصابه ما أصابه من الظلم – ولو في نظره – والحسد في نظر محبيه، فأتى بما لا يُمسّ من الصفات ومن الأشخاص؛ ولكن التجربة والعاطفة والواقع الذي مرّ به يجعله يتشبّث بفكرته كيف لا وهو الذي جعل الظلمُ صفةً أساسية في النفس البشرية؛ بل وبدأ به بيته الشعري الذي طار في الأجواء حكمة تتداول إيغالاً في الهجوم على هذه الصفة المنبوذة وإشهارا لها وتشبثاً بفكرته.
وهو وإن عمّم هذه الصفة على النفوس فتكادُ كل النفوس من طبعها الظلم وإذا عدلت فتشذّ عن القاعدة أو تستثني وهي فئة نادرة رسمها بوسم (ذي عفة) وهي سمة قليل من يبلغها بين الناس؛ بلّ وضيّق أكثر فأكثر حين أكّد على وجود علّة لعدل ذي العفة هذا الذي لم يظلم!!
وبرع مرة أخرى هذا الشاعر الفذّ في تسليط الضوء – كعادته – على ما تخبئ من المعاني وأرادها أن تخرج لأدوارها حيةً تشارك الأفكار الوضاءة فاختار لفظة النفوس بدلا من الأشخاص أو الأفراد واستعاض بها عن لغة الحواس فأرادها كامنة خلف الستار وهي كذلك وهل الظلم إلا من أعمال النفس والتي يختبئ خلف أستارها العديد من الصفات التي تودي بصاحبها قبل أن تضرّ من حولها، ومن أدلّة ذلك - من الشعر – قول الشاعر وهو يصف الحسد – وهو يتعلق بالنفس كذلك - ..
اصبر على مضض الحسود فإن صبرك قاتله
فالنار تأكل نفسها إن لم تجد ما تأكله
لقد بلغ به الحال مبلغه حين قال ذلك ولعل الكثير قد يرون أن المتنبي قد بلغ أطراف الثريا في مبالغته تلك وأن الظلم لا يعدو كونه صفة قليلة بقدر الكم الهائل من الصفة الحسنى – العدل – والذي يتمتع بها الناس كما نرى، لكننا نقول كما فعل المتنبي فما أكثر الظلم وهو يجري جريانا بين الناس تعلم ولا تعلم يسيرُ جيوش النمل في خفّة حركة ورقة صوت حتى يبلغ مأمنه، وما أدلّ على ذلك بداية بين أبني آدم ومن ذلك المشهد توالت المشاهد وكبرت شجرة الظلم فاندرج تحت ظلالها الكثير من (شيم النفوس) التي أصبحت علامة بارزة بشيمة الظلم وليس الحسد آخرها.
وتفنن الناس - علموا وما علموا – في تعاطي الظلم فجروا بذلك الويلات والمصائب وتولّدت آفات أثارتها الريح من تحت رماده.
أما في ألفاظه – شاعرنا العبقري – فقد انتقى أولاً ما دلّ على الكثرة لتفشي هذه الصفة فكثّر (النفوس) وسبقها بصفاتها (شيم) على أن الظلم ليس شيمة واحدة بل بالجمع وكلّ ذلك سوقاً على الهجوم على تلك الصفة القبيحة، وانظر كيف يبرع في اختيار لفظة (ترى) في طرف الشطر الثاني، وهو التضييق الثالث فاشترط رؤية ذلك العفيف الذي لا يظلم فإن قيل (تسمع) فإنها قد تكون أخباراً غير صادقة.
¥