ـ[السراج]ــــــــ[04 - 02 - 2010, 09:06 م]ـ
لي حبيب لجّ في الهجر جدا=وأراني الصدود منه وأبدا
هو شاعر موسيقى الشعر، يتفنن في ترتيب الألفاظ وتناسقها وصفّها في تناسبٍ مميز تُظهر في نهاية ذلك طابعٌ خاص به وختمٌ باسمه.
فحين تُعيد قراءة هذا البيت تراه يكادُ ينْسَلّ ويجري في اللسان في خفة وعذوبة، وهذا ليس بمحض الصدفة بل بمقومات تلك العذوبة فمن موهبة فطرية جُبِل عليها البحتري وعنايته في جعل الشعر – كما أراد دوماً – سهلاً ليناً.
فأكثرَ من حروف المدّ الطويلة، وهذه الأصوات تجعل اللفظة سامقة في النطق يَخْفت شيئاً فشيئاً إلى أن يبدأ الصوت الآخر، وأكمل هذه الأصوات وتناغمها بوضعه قافية (الدال المطلقة) كي تناسب مراده ودلالةً على المعنى الفريد الذي أراده من القصيدة فكان العتاب يشعّ من الأبيات.
بدأ البحتري بيته هذا – والذي هو مطلع قصيدة جميلة في مدح (صديقه) المتوكل – بدأه بخبر شفيف، وكأنه يخاطب حبيبه ويبتسم فيعرّض ذلك. ويعاضد ذلك الخبر بأنه أمعن في الهجر، واللفظة المضيئة هُنا هي (لجّ) التي دائماً ما نستخدمها في سلك المسالك الوعرة الموغلة في النزول، والأماكن الضيقة كالسراديب (مع ملاحظة سلك هذه المسالك في - لجّ - بسهولة ويسر وعن تعوّد). وأيضاً عن اللجوج والإلحاح في الشيء وطلبه بشدة فأتى بها في تصوير رائع لهذه الصفة النفسية التي تنعكس فعلاً ظاهراً تصوير يجعل من (حبيب) البحتري يسلك الهجر بسهولة ويسر لكثرة إيغاله فيه فهذه اللفظة علامة على الكثرة، وحين أراد أن يبلغ آخر مرمى للهجر وآخر مساربه طرّز في طرف البيت بلفظة (جدا) التي أتتْ لتزيد الهجر هجراً.
وفي الشطر الثاني يتفنن شاعرنا كما تفنن صاحبه في ملاعبته، فصيّر الصدود عادةً في سلوكه. بل عبّر بها عن الرؤية (أراني) فأصبح الشاعر يرى الصدود اللذيذ بعين الحقيقة مشاهدا. ومن جميل الكلام تأخير لفظة (البداية) إلى نهاية الشطر ربطاً بما سبق من كثرة الصدود ومتابعة حبيبه فيه واستمراره فكأنه أصبح في دائرة لا يُعرف أولها من آخرها.
ـ[السراج]ــــــــ[10 - 02 - 2010, 07:20 ص]ـ
يا كوكباً ما كان أقصر عمره=وكذاك عمر كواكب الأسحار
للتهامي
يا كوكباً ...
ما الذي فجّر هذا البيان الصِرْف؟
ما الذي أبكى هذا الشيخ؟
ما الذي صبّ فلول الحروف وجيش العواطف في هذه القصيدة؟
لم يقدّر لي أن أدرسُ هذه القصيدة منهجياً، ورغم ذلك استولتْ – بالذوق – على العواطف وأحسستُ حين قرأتها أول مرّة (أني درستُها ودرّستُها)!
لكني وجدتها في كتب طلاب المدارس وحين وجدتها أدركتُ ذائقة ذلك الذي اختارها (منهجاً) تعلّمُ الأشبال أن الشعر حين يكونُ صافياً من الشوائب يتدفقُ بعذوبة فيأسرُ الألباب.
شيء عجيب في هذه القصيدة تجعل القارئ يتيقن – بلا جهد – أن الشعر يسمو بالصدق، وأنه – إن كان شعراً - (ولا ريب) يحرّك عواطف جياشة عنده، فتجعله يعيش تلك الحالة التي انغمس فيها الشاعر.
لله درّه كيف وفقته الفطرة في اختيار تلك الألفاظ المتناسبة فابنه مات في الرابعة عشرة من عمره فما كانت أنسبُ الألفاظ وأقرب الصفات شكلياُ إلا الكوكب (القمر) الذي بلَغَ أوجّ صورته البهية في اليوم الرابع عشر، واستطاع الشاعر التهامي أن يحرّك هذا التناسب الجامد بجمال حرف النداء الذي ليّن هذا الجمود فصوّر الكوكب شخصاً وصوّر ابنه كوكباً ها هو يُناديه (فلازال قريباً من قلبه).
ثم في التفاتٍ معنوي راقٍ يشبه ابنه بنجوم السماء؛ فالكوكبُ احتلّ رمزين من رموز السماء (القمر والنجم) وكلاهما يختلط عند العرب في المسميات فكانت تطفو كلمة كوكب على السطح.
نقول شبه ابنه بالنجم والقمر في آن.
فالصفات هُنا تتلاحق بينهما فكان وجهه المنير وجمال صورته وعلو شأنه وارتفاع منزلته وبعد شأوه - كل ذلك اختصرها في كوكباً لكن ما أراده أن يبرُز من هذه الصفات أدرجها صراحةً بحروفها ومعانيها - .. وأخيراً قصَر عمره!.
فيسوق الصفة المشابهة بين الشيئين (النجم وابنه) فيقول (ما كان أقصر عمه)، وتهافت الساعات التي طوت النجم سريعاً بعد السَّحَر يجده شاعرنا هو الوقت نفسه الذي طوى خلاله الموت ابنه في سرعة الأيام والسنوات التي قضاها، ويدبّج هذا المعنى بجمالية القِدَم (ما كان) فالأمرُ مضى وكان، ويشدّد على هذه الجمالية في استغراب وتعجّب من قِصَر عمره الذي مضى.
ويستدركُ التهامي بعدما (حلّل) العلاقة بين ابنه الذي قضى وعمره في الرابعة عشرة والنجم يستدرك تسليةً لنفسه التي ذابت حُزنا وكمداً نجده في سطور هذه القصيدة، فكأنه يقول لنفسه: لم البكاء؟ فعمر النجوم قصير.
والإضافة في كواكب الأسحار تأكيد على التي تبلغ النجوم قوة وميضها لشدة الظلام وهو الوقت الأقرب لزوالها وأفولها فإلصاق وقت السحر أظهر معاضدةً لما ذكره في الشطر الأول من تقارب الصفات.
ويظهر معنا صيغة الجمع التي أرادها الشاعر لإفادة العموم بين المضاف والمضاف إليه.
¥