ـ[السراج]ــــــــ[18 - 02 - 2010, 09:12 م]ـ
أظمتني الدنيا فلما جئتُها=مُستسقياً مطرتْ عليّ مصائبا
إني لأعجبُ من هذا الأسلوب، وهذه (الجرأة) في سحْبِ الألفاظ على غير مشتهاها!
فلو تأملتَ لفظتي (أظمتني) و (مستسقياً) لوجدتَ ترابطاً شرطيا بينهما أو بالإمكان القول ائتلاف وسبب ونتيجة فطلب السُقيا جاء نتيجة الظمأ.
لكن عجبي فيمن أحدثَ هذا الظمأ – في نظر المتنبي – هو نفسه من ذهب إليه طالباً السقيا وهذه ليست المرة الأولى فقد استخدم الشاعر هذه الفكرة فالآن استشعر قوله (فيك الخصام وأنت الخصم والحكم).
ثم تأمل موقع اللفظتين في البيت، حيثُ بدأ بهما كلّ شطر في مفارقة لغوية بديعة.
أظمتني، تعود بنا هذه اللفظة إلى الفعل اللازم منها واستطاع أن يُعدّي الفعل بالهمزة كي يصبح الفعل قوياً بحيث ييجعل له مؤثر خارجي ومن .. الدنيا ..
وهو شاعر يدرك ما يختاره من ألفاظ ويدرك ما يبتكر من معانٍ وحروف مجنحاتٍ (كما وصفه الجواهري)، فقد نالت منه الدنيا من آخر ما يعتريه من (عطش) – ووضعناها بين قوسين لأن مراده أكبر – فقد كان يدور في خلَده شيء آخر منعته الدنيا عنه فأبرز ظاهره رمزاً.
ولكن يواصل ذلك الرمز سالكاً المسلك نفسه بذكاء وعبقرية نادرة، وفي زخم لطيف من أساليب البلاغة التي تناثرت هنا وهناك – دلالة على ترصيع البيت وجماله – فهو يصوّر الدنيا مثل ملك يأتيه طالباً السقيا ..
وهنا يرسم الشاعر لنفسه صورة وكأنه حاملُ إناء يطلب فيه ماء من ذلك الملك الذي منع عنه ورود المياه، ثم يكمل المشهد، حيث ذلك الإناء لم يكن يستحمل ذلك العدد الكبير من المشكلات التي انهالت عليه من غضب الملك عليه.
هذا هو أسلوب أبي الطيب، فكيف يربط الألفاظ بحبال وثيقة تارة تكون بارزة، تظهر ذلك الربط لزيادة جمال، وتارةً تخفي ذلك الربط تزامناً مع خفاء معنى.
وهل – فعلاً – لم يجد المتنبي ماء حتى أصابه الظمأ!؟
فهو يستمر في رمزيته إلى آخر لفظة في البيت والتي جعلها كشافا لما أراد أن يكسر به الرمز الذي بناه في بداية البيت – وحتى لا يتوهم القارئ أنه الراد الظمأ حقيقة – (وكأنه يرسم متاهة يكون آخرها هو الحل).
وحيث استطاع أن يستفيد من غنى اللغة الخالدة ثرائها بالصور: (الظمأ) و (الاستسقاء) و (ورود الماء) و (المطر) ... كلها أخذها من حقل واحد (الماء) وحشدها في بيت واحد، وأرفق معها جانباً من فنون البلاغة.
وتلك الاستعارة المكنية دليل جميل على ذلك، فقد ختم بها البيت من تصويره جيش المصائب الذي حلّ به – وهو أعزل – أكثر عددا، يأتيه من كل مكان تماماً كالمطر فما أكثره وما أجملها من لفظة، بلْ وأبدع حيث اشتق من المطر (فعله).
ثم وجود حرف الاستعلاء هنا (على) بينما اقتضت العادة أن يكون المطر ماءً لنا (أُمطِرْنا) هكذا نقول. أما هنا فكأن هذه المصائب شيئاً يسقط (عليه) وليس (له) وهو ما يدلّ بشيء من الوضوح على ضرّ وليس بنفع!
هكذا هو المتنبي يعلم بمكنونات اللغة فيوظفها كي تتلألأ ضياء رغم ما احتواه بيته من حزن وكدر.
ـ[السراج]ــــــــ[25 - 03 - 2010, 09:30 م]ـ
ما للضفاف تزمّ دوني جفنها **** والريح تأبى أن تريح سفيني
من قصيدة (تعجّ) خيالاً وتجري اختيالاً لشاعر يعيشُ بيننا، لكنه – وكما ترى الأحرف – غارقٌ في ترحاله المتعب وإن كان ترحالا في أفق نفسه والذي أراد تغييراً إلى جذور طبيعة رآها خيرا من مصابيح المدينة.
يحيى السماوي ...
وهي قصيدة طويلة اختصرها الشاعر في عنوانها الذي اختزل مشاعره، وذكّرنا – به – مراتع الشعر والجمال في عصور قديمة خلت، فهو يستعير الرمز الخالد للمرأة (ليلى) في عنوان القصيدة بل ويقرن نفسه في تلاحقٍ رائع لفعلين اتصلا بهما ضميريهما لولا شقاوة الفعلين!
(يشقيك يا ليلاي ما يشقيني) هذا هو عنوان تلك القصيدة، والتي أخذنا منها هذا البيت.
هذا البيت الذي أطلقه الشاعر استفهاماً، أو سؤالاً يريدُ إجابته من الريح، أو من الضفاف أو منك أنت أيها القارئ، علّه يجد راحةً بعد سؤالٍ ضجّ في تفكيره.
ما للضفاف ..
وبصيغة الجمع – الكثرة، فهذه الرحلة أبتْ أن تتوقف لسبب بسيط أن كل المرافئ رفضتْ استقبالي وأبتْ أن تحتوي جسدي ولأنني في دومة الترحل من بلدٍ إلى بلدٍ ومن مدينة إلى أخرى كانت حياتي بلا استقرار.
فهذه الضفاف تغلقُ منافذها .. دوني .. وفي تلك القراءة استخدم الشاعر صورة مركبة في تصوير الضفاف على إنها إنسان يقتضي الترحيب بالغريب القادم من بعيد، إلا أنه (بالغ) في عدم مُبالاته بمن أتى بل رفض استقباله فأغلق المنافذ عليه .. وأغلق عينيه كيلا يراه!
صور الضفاف بإنسان، الجفن – تزمّ.
وأراد بالجفن ساحات الضفاف ومرافئها ومراسيها.
تخيل أن الضفاف لها جفنٌ تُغلقه، هكذا كما قال الشاعر، لكنه أتى بلفظة أقوى من (تغلق) لفظة تستخدمها العربية أكثر للشفتين حين يضغط الإنسان على شفتيه بقوة (زمّ).
وحين أرادها الشاعر تلك اللفظة أن تكون بُنياناً متناسقاً مع الشعور الداخلي في قوّة الغلق المعنوي وإصراره. وجمّل هذه الصورة بسابقة أخرى وذلك بإضافة لفظة (دوني) متوسطة تلك الألوان الشفافة، دليل آخر أنه هو المقصود من إتعابه ومواصلة رحلته دون توقّف!
والشطر الثاني صورة انعكاسية لذات الفكرة كقمر في نهر، مع إضافة مقصودة بوجود مؤثرات أخرى دافعة لتلك الرحلة بالمسير دون توقّف باعتبارها قوة طاقة مستمرة. وهو ما يجعل تلك الرحلة تسيرُ دون هدف ودون اتجاه.
تأبى: لفظة مُسقطة من الإنسان إلى الريح بها تشخيص بعد استعارة (أضاءتْ) ضفاف البيت، بعدما أضافتْ تعباً آخر وجهداً آخر ..
ذلك كله يقتضي وجود البحر الذي لم يذكره الشاعر في هذا البيت ولا في ما قبله لكنه ألمح بوجوده بألفاظ (دليل خطوات) عليه – الضفاف – والريح – سفيني، وكلها مرتبطات بالبحر أو النهر.
لقد ظلّ السؤال مفتوحاً يبحثُ عن إجابة، ويبحثُ شاعرنا بعده عن راحة، عن وطنٍ يفتحُ عينيه في هدوء لبدويّ يحملُ أشواقه وحنينه معه أينما حلّ وأنّى رحل.
¥