وبذلك تكون أحاديث التفسير قد تناولت في مجموعها الجميع".
قبل البدء بالتفسيريتلى على أمواج الإذاعة ربع من القرآن الكريم، وبعد ذلك مباشرة ينتقل الشيخ المكي الناضري رحمه الله إلى تفسير هذا الربع من إملاء سماحته،وقد ارتأيت أن أدرس سورة النبأ والنازعات باعتبارهما يشكلان ربعا.
قبل بدئ التفسير يقدم المادة التي هي محور التفسير فيقول مثلا: موضوع حديث اليوم تفسير الربع الأول من الحزب التاسع والخمسين في المصحف الكريم، وبدايته قوله تعالى في فاتحة سورة "النبأ" المكية: "بسم الله الرحمان الرحيم: عما يتساءلون عن النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون"، ونهايته قوله جلا علاه في سورة النازعات المكية أيضا: "وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى".
حين يعرض مادة التفسير لا يقف عند جميع الآيات، ولا يستطيع شرح جميع المفردات نظرا لأنه تفسير إذاعي وتناغما مع جل شرائح المجتمع، ولكل مقام مقال.
إنه انطلق في اعتماده على تفسير ربع من القرآن على القرآن نفسه حيث إنه مجزء إلى الأثمان والأرباع والأنصاف، واقتضت حكمته تعالى فيه أن يكون مقسما إلى سور تتضمن في طياتها آيات متعددة، شاءت حكمة الله أن يكون نزولها منجما حسب الوقائع والأحداث قصد تسهيل حفظه وتيسير تدبره، ويكون أدعى للانتفاع به علما وعملا.
فعلى هذا الأساس، ومراعاة لتلكم الدواعي، ارتأى المكي الناصري أن يعتمد الربع خدمة للمقاصد السابقة، وسيرا مع منحى علماء الإسلام الذين جزؤوا تلاوة المصحف إلى عدة أجزاء. إضافة إلى غرضه في شرح وبسط معاني الآيات المتلوة في الإذاعة. كما نلحظ تناسبا ما يربط بين سور المتلو، فمن ذلك أن تكون سور الربع مكية، كما هو الأمر في سورة النبأ، والنازعات المكيتان، وهذا يسلمه للقول بمحور عام يجمع بين سور الربع، وعليه فمحور هذا الربع هو البعث، قال: "في مطلع الربع، وهو فاتحة سورة "النبأ" المكية يتحدث كتاب الله مرة أخرى عن البعث "يوم الفصل"، ثم في آخر سورة النبأ تناول الآية الأخيرة منها التي تتحدث عن حسرة الكافرين، ويربط معاني هذه ببداية سورة النازعات محاولا إثبات محور يضم السور حيث يقول: بعد تناول آخر آية من سورة النبأ السالفة الذكر: "ومن هنا ننتقل إلى سورة "النازعات" المكية أيضا".
كما يومئ إلى المناسبة بين محور السورة وبعض القضايا المرتبطة به، فيقول: " وتناول كتاب الله بهذه المناسبة الحديث عن الطاغين" وعقابهم"، وقال أيضا: "ثم عرج كتاب الله على ذكر "المتقين وثوابهم".
بعد عرض قضايا السورة ومحورها، ينتخب مجموعة من الآيات التي تشتمل عليها السورة يفسرها، قال بعد فراغه من حديثه عن محور السورة وقضاياها: والآن فنقف وقفة خاصة عند بعض الآيات من هذه السورة الكريمة". فيشرع أولا في بيان المعنى اللغوي ومثاله عند كلامه على قوله تعالى: " وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا": "الماء الثجاج" هو المتتابع الصب. ثم أتبع هذا المعنى بآية في كتاب الله تشير إلى نفس المعنى: وإلى هذا المعنى يشير قوله تعالى في آية أخرى: "الله الذي يرسل الريح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفا فترى الودق يخرج من خلاله".
ونجده وقافا عند النصوص دون إعمال للتأويل خصوصا في بعض النصوص التي لا مجال للرأي فيها، ومثاله ما قاله عند تعرضه لقوله تعالى: "يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا"، فيذهب إلى معنى الصور بأنه البوق انسجاما مع نصوص حديثية واردة في الباب، قال: "المراد بالصور شيء يشبه البوق، سينفخ فيه يوم القيامة لدعوة الخلائق إلى ميقات جمعهم المعلوم، ولم يضف كتاب الله إلى ذكر إسمه أي بيان عنه ولا عن كيفيته، فذلك من "علم الغيب".
قد يتبادر إلى الذهن أن الرجل يكتفي بشرح الألفاظ شرحا لغويا مبسطا تعليميا، بل إنه يرجع اللفظة القرآنية إلى المفرد ثم ينطلق من المعنى الذي أفاده المفرد ليؤسس عليه معنى عاما للفظة الموظفة في سياقها القرآني. ومثال ذلك: قال: وقوله تعالى في شأن الطاغين: "لابثين فيها أحقابا" أي: ماكثين في جهنم أحقابا، والأحقاب جمع "حقب"، وهو في ذهابه إلى أن الأحقاب تجمع على "حقب" يستدل بنص قرآني من سورة الكهف: قال تعالى: لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا"، ثم يستهل في شرح معنى هذا اللفظ: "والحقب هو المدة الطويلة من الدهر، "والحقبة من الدهر تجمع على حقب وحقوب".
عند تفسيره لقوله تعالى: لابثين فيها أحقابا" تعرض للأقوال الواردة في الآية، من ذلك قول لخالد بن معدان مفاده "أن العصاة من المؤمنين إذا عذبوا بجهنم فإنهم لايخلدون فيها، وإنما يلبثون فيها مدة محدودة، ثم يفارقونها إلى الجنة بمغفرة الله ورحمة منه"، وقول آخر في الآية لقتادة، أن الطاغين "يعذبون في جهنم عذابا لا انقطاع له، بحيث كلما مضى "حقب" جاء بعده حقب آخر"، فصار المكي الناصري إلى ترجيح القول الآخير لقتادة بناء على قول ابن جرير القائل بأن الأحقاب لا انقضاء لها، وقد عضد المكي الناصري رأيه بالآية الواردة في نفس السورة وفي نفس السياق: فذوقوا فلن تزيدكم إلا عذابا"، مدعما رأيه بقول عبد الله بن عمرو: لم ينزل على أهل النار آية أشد من هذه الآية، فهم في مزيد من العذاب أبدا".
ومما يقف عليه المطلع على كتاب "التيسير" تمكن الرجل من العربية فهو عالم بوجوه تصاريفها ملم بمعهود العرب من الكلام، عارف بمساقات كلامها، فمما يتجلى فيه إلمامه بمعهود كلام العرب تفسيره لقوله تعالى: "جزاء من ربك عطاء حسابا". قال: "أي عطاء كافيا وافيا، تقول العرب أعطاني فأحسبني"، أي: كفاني، ومنه "حسبي الله" أي: أن الله كفاني".
كما يحاول أن يوسع معاني بعض المفردات والكلمات لتصير لها دلالة عامة تستوعب الأقوال التي قيلت في القديم، وتتضمن أيضا المعاني المستحدثة، تحكمه في ذلك الرغبة في تقريب معاني بعض الأشياء المبهمة، ومراعاة التطور الحاصل في واقع الحياة ودنيا الناس، وتفاديا للتضارب والإختلاف في أقوال بعض المفسرين.
¥