التكليف منوطاً بالحرية التي متَّع الله بها الإنسان، كانت استجابته للتكليف متفاوتة، فقد يصل الإنسان إلى درجات جهلتها الملائكة عندما اعترضت على خلافة آدم في الأرض، وقد ينحط إلى ما خشيته الملائكة من إفساد وسفك للدماء.
* أخيراً ..
إن الآيات القرآنية إذ أوردت تساؤل الملائكة عن أهلية الإنسان ليكون خليفة في الأرض والجواب الإلهي عليه، إنما كانت تشير إلى أسس نجاح الإنسان في عمران الأرض منذ بدء الخلق، فالملائكة تشير إلى سنة إلهية هي أن العمران والخلافة في الأرض لا تستقيم مع الفساد وسفك الدماء، والجواب الإلهي كان أن الإنسان بما هو مكلف قد أوتي من علم الأسماء ما يعصمه من الفساد وسفك الدماء وبالتالي النجاح في الاستخلاف، فقد آتاه الله ملكة المعرفة واكتشاف قوانين الأشياء، والتعرف على خالقها، وبالتالي ربط الكون به، وإذا تعرف الإنسان على قوانين الأشياء وسننها والتزم بها فلا فساد في الأرض، وإذا تعرف على الخالق ورسالاته وعرف منظومة القيم التي تحكم حياة الإنسان والتزم بها فلا سفك للدماء، إما إن اغتر بما أوتي من معرفة فتألَّه بعلمه وسمى الأشياء من عنده ولم يربطها بالله فقد استبد ولن تكون المعرفة عاصماً له من الفساد أو سفك الدماء، فالمعرفة العاصمة (علم الأسماء) هي التي تقود إلى تسبيح الله وتقديسه، وبالتالي ضبط النفس عن استخدام المعرفة للإفساد أو سفك الدماء، فإذا حصل ذلك فاق الملائكة قدراً وشرفاً وإلا انحط إلى ما حذرت منه الملائكة.
إن أزمة الإنسان العالمية اليوم ولدى جميع الأمم أنها تعيش انتهاكاً صارخاً (دولياً ومحلياً، فردياً وجماعياً) للنظام الطبيعي (الإفساد في الأرض) وللنظام القيمي (سفك الدماء)، فقضية القضايا التي لا تختلف فيها فِطر الناس هي استنكار العدوان على البيئة والعدوان على حقوق الإنسان، وكلاهما يحولان دون أداء الإنسان ما لأجله أوجد في هذه الأرض وهو العمارة: "وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا" (هود:60)، والعبادة: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" [الذاريات:56]، والخلافة: "وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ" (الأعراف:129) [9].
* الإحالات:
[1] "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ" (البقرة:30).
[2] الآيات هي:] وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ (33) [[البقرة].
[3] انظر أقوال المفسرين في: الطبري، محمد بن جرير، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، (بيروت: دار الفكر،1405هـ)، ج1 ص215 - 216، القرطبي، محمد بن أحمد، الجامع لأحكام القرآن، تحقيق: أحمد عبد العليم البردوني (القاهرة: دار الشعب، ط:2، 1372هـ) ج1 ص282، ابن الجوزي، جمال الدين أبو الفرج، زاد المسير في علم التفسير، (بيروت: المكتب الإسلامي، ط:3، 1404هـ) ج1 ص62 - 63.
[4] "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ" (البقرة:30).
[5] الواقعة:74 - 96، الحاقة:52، الأعلى:1، ومن الطرافة تكرار مفردة الأسماء التي علمها آدم (ع) أربع مرات أيضاً.
[6] انظر: انظر: المرزوقي، أبو يعرب، في العلاقة بين الشعر المطلق والإعجاز القرآني، (بيروت: دار الطليعة، ط:1، 2000) ص:125.
[7] انظر: [7] انظر: المرزوقي، أبو يعرب، شروط نهضة العرب والمسلمين، (دمشق: دار الفكر، ط:1،2001) ص181.
[8] انظر حول المعنى اللغوي: ابن منظور، محمد بن علي، لسان العرب، (بيروت: دار صادر، ط:1، د. ت) ج:14 ص401 - 402 - 403، الفيروزأبادي، مجد الدين محمد بن يعقوب، القاموس المحيط (د. ط، د. ت) ص:1672، الأصفهاني، الحسين بن محمد الشهير بالراغب، مفردات ألفاظ القرآن، تحقيق: صفوان عدنان داوودي (دمشق: دار القلم، ط:3،2002) ص:428.
[9] انظر: الأصفهاني، الذريعة إلى مكارم الشريعة، ط: دار الكتب العلمية، بيروت، ص 31 - 32.