تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

لقد توهمت في هذه الآية الأخيرة أنها أتت على غير وجهها البلاغي، ولو جاءت عليه لقيل (لو افتدى به) بدون الواو ... فما سر هذا القلب؟ وما معنى مجيء هذه الواو؟ ذهب كثير من العلماء إلى أنها زائدة، وأنا أرى في هذا الموطن رأي أبي العباس المبرد، فإن له مذهباً سديداً في جملة الحروف التي يقولون عنها أنها مزيدة في القرآن، وهو أنه ليس شيء من الحروف جاء في القرآن إلا لمعنى مفيد، ولا يجوز أن يكون لقاً مطرحاً، ولا خالياً من الفائدة صفراً، وذلك أن الزيادات والنقائص في الكلام إنما يضطر إليها ويحمل عليه الشعر الذي هو مقيد بالأوزان والقوافي، وينتهي إلى غايات ومرام، فإذا نقصت أجزاء كلامه قبل لحاق القافية اضطر الشاعر إلى أن يزيد في الحروف فيمد المقصور، ويقطع الموصول، وما أشبه ذلك. وإذا زاد كلامه – وقد هجم على القافية فاستوقفته عن أن يتقدمها، وأخذت بمخنقه دون تجاوزها – اضطر صاحبه إلى النقصان من الحروف، فقصر الممدود، ووصل المقطوع، وما أشبه ذلك حتى يعتدل الميزان، وتصح الأوزان؛ فأما إذا كان الكلام محلول العقال، مخلوع العذار، ممكنا من الجري في مضماره، غير محجور بينه وبين غاياته، فإن شاء صاحبه أرسل عنانه فخرج جامحاً، وإن شاء قدع لجامه فوقف جانحاً، لا يحصره أمد دون أمد، ولايقف به حد دون حد – فلا تكون الزيادات الواقعة فيه إلا عيا واستراحة، ولغوباُ وإلاحة، وهذه منزلة ترفع عنها كلام الله سبحانه، الذي هو المتعذر المعوز، والممتنع المعجز، وكل كلام إنما هو مصل خلف سبقه، وقاصر عن بلوغ أدنى غاياته، بل قد يرتفع عن هذه المنزلة كلام الفصحاء المتقدمين، والبلاغاء المحذقين، فضلاً عما هو أعلى طبقات الكلام، وأبعد مقدورات الأنام.

وإذا كان ذلك كذلك فما معنى هذه الواو؟

ما كدت أوجه هذا السؤال إلى جائشتي حتى تذكرت – وللذكرى شجون – سؤالاً من هذا القبيل وجه إلى أبي العباس المبرد، وقد قرأ قوله تعالى: (هذا بلاغ للناس ولينذروا به) سأله سائل فقال: قد علمنا أن هذه اللام لام كي فما معنى إدخال الواو عليها إن لم نقدرها مزيدة؟ فقال له المبرد: ألست تعلم أن قوله تعالى (هذا بلاغ) مصدر، وقوله (ولينذروا به) فعل موضوع في موضع المصدر، لأن الأفعال تدل على مصادرها؟ فالتقدير: هذا بلاغ للناس وإنذار، فبطل أن تكون الواو جاءت لغير معنى.

وقد أحسن المبرد في هذا الجواب غاية الإحسان. فما أحسن جواب في واو الآية التي نحن بصددها؟ قال الزمخشري: " فإن قلت: كيف موقع قوله (ولو افتدى به)؟ قلت: هو كلام محمول على المعنى كأنه قيل: فلن يقبل من أحدهم فدية ولو افتدى بملء الأرض ذهباً " وهذا المعنى الذي ذكره لا يتسق ونظم الكلام، والذي يقتضيه التركيب وينبغي أن يحمل عليه، أن الله تعالى أخبر أن من احترم كافراً لا يقبل منه ما يملأ الأرض من ذهب، على كل حال يقصدها، ولو في حالة الافتداء به من العذاب. ومن المعروف في النحو: أن (لو) تأتي منبهة على أن ما قبلها جاء على سبيل الاستقصاء وما بعدها جاء تنصيصاً على الحالة التي يظن أنها لا تندرج فيما قبلها كقوله: (أعطوا السائل ولو جاء على فرس، وردوا السائل ولو بظلف محرق)، كأن هذه الأشياء مما كان لا ينبغي أن يؤتى بها، لأن كون السائل على فرس يشعر بثرائه، فلا يناسب أن يعطى، وكذلك الظلف المحرق لا غنى فيه. فكان يناسب أن يقبل منه ملء الأرض ذهباً لكنه لا يقبل، ونظيره قوله تعالى: (وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين)، لأنهم نفوا أن يصدقهم على كل حال حتى في حالة صدقهم، وهي الحالة التي ينبغي أن يصدقوا فيها، ولو هنا لتعميم النفي والتأكيد له، فكأن الله سبحانه لما قال: (فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً) عمم وجوه القبول بالنفي، ثم فصل سبحانه لزيادة الإيضاح والبيان ... ولو لم ترد هذه الواو لم يكن النفي عاماً لوجوه القبول، وكان القبول كأنه مخصوص بوجوه الفدية دون غيرها من وجوه القربة ... وهكذا تتكشف لك دقائق الإعجاز في القرآن إذا أعملت الفكر، وأرهفت الخاطر، ويتبين لك جلياً أن " الحرف الواحد من القرآن معجز في موضعه لأنه يمسك الكلمة التي هو فيها، ليمسك بها الآية والآيات الكثيرة، ولأنه ما من حرف إلا ومعه رأي يسنح في البلاغة من جهة نظمه، أو دلالته أو وجه اختياره بحيث يستحيل البتة أن يكون فيه موضع قلق، أو حرف نافر، أو جهة غير محكمة، أو شيء مما تنفذ في نقده الصنعة الإنسانية من أي باب من أبواب الكلام إن وسعها منه باب ". وهذا هو السر في إعجاز عامته، والدليل الناصع على أنه (كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خير)، (خلق الإنسان علمه البيان).

ـ[أحمد تيسير]ــــــــ[12 May 2008, 10:47 م]ـ

جزى الله خيراً من كتب هذا المقال ومن نقله لنا ......... هذا مقالٌ ماتعٌ نافعٌ .......... نرجوا الاستمرار وعدم التوقف يا أخ موسى

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير