تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

- وصنف ثالث بين الدرجتين، بلغهم اسم محمد صلى الله عليه وسلم ولم يبلغهم نعته وصفته، بل سمعوا أيضا منذ الصبا أن كذابا ملبسا اسمه محمد ادعى النبوة ... فهؤلاء عندي في معنى الصنف الأول، فإنهم مع أنهم سمعوا اسمه، سمعوا ضد أوصافه، وهذا لا يحرك داعية النظر ... وأما من سائر الأمم فمن كذبه بعد ما قرع سمعه التواتر عن خروجه وصفته ومعجزاته الخارقة ... فإذا قرع ذلك سمعه فأعرض عنه وتولى ولم ينظر فيه ولم يتأمل ولم يبادر إلى التصديق فهذا هو الجاحد الكاذب وهو الكافر، ولا يدخل في هذا أكثر الروم والترك الذين بعدت بلادهم عن بلاد المسلمين" [19].

يقول الشيخ محمد الغزالي –رحمه الله– بعد أن قسم الناس إلى ثلاثة أقسام، مؤمن وكافر وجاهل: " .. والكافر هو الذي عرضت عليه هذه الحقيقة عرضًا لا يشوبه لبس ولا يخالطه تحريف ولا تشويه، فعقلها كما جاءت من عند الله، ومع ذلك آثر جحدها، واختار إنكارها، ورفض الإذعان لها، مع استطاعته أن يهدي قلبه، ويرضي ربه، فذلك كافر نجزم بأنه هالك بائر، ((ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم)) محمد 28 .... أما الجاهل فهو رجل لم تبلغ دعوة الحق مسامعه ليستجيب لها أو يرتد عنها، فهو يعيش حسب ما قيض له من أفكار، أو ما ارتبط به من وراثات ونحن إذا تأملنا في هذا الصنف من الناس نجدهم أقساما شتى بين رعاع وخاصة، وبين أذكياء وهمل وبين كتابيين ووثنيين .. إلخ، وإصدار حكم جامع أو إيضاح مصير مشترك يضم أولئك جميعًا أمر عسير ... ومن ثم قلنا: إن هؤلاء الذين لم توقظهم من غفواتهم النفسية والعقلية دعوة الإسلام لا يعدون كفارًا بها، كيف وهم لم يوصل لهم القول، كي يدخلوا في نطاق الآية {ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون} (القصص51) وأغلب الظن أن وزر هؤلاء يقع على الأمة الإسلامية، الأمة التي فرطت في رسالتها وتنكرت لمواريثها، وحرمت العالم من النور الذي شرفها الله به، انظر إلى قوله تعالى: (وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ) [20] هذه الآية تبين حكم الله فيمن يجهل دينه. فإنه لما احتدم النزاع بين الإسلام الواضح الوفي المسالم، وبين ناكثي العهود وبغاة السوء من خصومه المتربصين به، وشاء الله عز وجل أن ينزل هؤلاء على قواعد الأدب الصارم، وأن يلغي المعاهدات التي طالما عبثوا بها .. لم يجعل العقاب يتناول الجميع، فمنهم خالو الذهن من العوام، ومن المخدوعين المغرر بهم، أو الجهال حقيقة الدعوة وإن بلغهم شيء عنها، الواحد من هؤلاء يجب أن يسمع كلام الله كما نزل من عنده، دون تحريف ولا تزيد ولا نقص، فإذا وعاه لم نكلفه فورًا بالإيمان، بل يجب أن نوصله إلى المكان الذي يملك فيه جأشه، ويطمئن فيه على نفسه وحرماته، ويبني حكمه على ما يعرض عليه وهو في حرية وعافية .. ذلك أن هذا وأمثاله معذورون في بعدهم عن الإسلام {ذلك بأنهم قوم لا يعلمون}، فإن آمن بعد هذه الفرص المتاحة، فهو منا، وإن كفر واعتزل تركناه، وإن كفر واعتدى قاتلناه. إننا لا نشتري خصومة من يجهلنا، ولا نعتبر علينا من ينأى بكفره عنا " [21].

والحقيقة أن مصطلح الكفر كان أكثر اتضاحًا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن بعده في زمن صحابته الكرام، ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته قاموا بدعوة الناس إلى الله بكل الوسائل وتركوا دين الله أمام أعين الناس أوضح من نور الشمس، فكانوا نماذج عملية لما يتكلمون به، فكان هذا الدين واضحًا أمام كل الناس بكل ما يحتاجونه من أدلة وبراهين، ولم يكن لأحد عذر في الإعراض عن هذا الدين إلا الكفر الناتج عن الاستكبار والحسد وإنكار الشمس في رابعة النهار، وليس ذلك الناتج عن الجهل، وما بدأ هذا المصطلح يصبح مضطرب المعنى في أذهان المسلمين، إلا عندما ضعف المسلمون في تطبيق دين الله على أنفسهم، وبالتالي -ولأن فاقد الشيء لا يعطيه– لم يستطيعوا أن يبلغوا دين الله كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، وبقدر بعدهم عن هذا الدين بقدر بعدهم عن المفاهيم الصحيحة التي جاء بها هذا الدين ومنها مفهوم الكفر.

الهوامش:

[1] الغزالي، محمد، نحو تفسير موضوعي للقرآن الكريم، صـ 3، القاهرة، بيروت، دار الشروق، 2000م، 1420هـ.

[2] جار الله أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري، أساس البلاغة، الطبعة الثالثة 1985م، مصر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ج2 مادة كفر.

[3] يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء، دراسة مقارنة للمسيحية، دكتور رؤوف شلبي، ص 215

[4] سورة آل عمران آيات 55،56، 57

[5] رواه مسلم

[6] رواه الشيخان

[7] الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني أبو العباس، 4 أجزاء، قدم له وأشرف على طباعته علي السيد صبح المدني، المؤسسة السعودية، القاهرة، 1964، الجزء الأول، صـ 312، وما بعدها.

[8] سورة البقرة آية 78

[9] سورة البقرة آية 79

[10] سورة التوبة آية 6

[11] سورة النحل آية 125

[12] سورة العنكبوت آية 46

[13] البداية والنهاية لابن كثير ج 3 ص 212.

[14] تفسير القرطبي جـ 16، صـ 170، دار الشعب، القاهرة.

[15] تفسير ابن كثير ج:2 ص:130

[16] تفسير ابن كثير ج:2 ص:131

[17] محمد الغزالي، نظرات في القرآن، ص 75.

[18] تفسير المنار – الجزء الأول – صـ 140 مطبعة المنار

[19] فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة / أبو حامد الغزالي /تحقيق الدكتور / سليمان دنيا 1961 ص 96 97.

[20] التوبة: 6

[21] انظر: مع الله، دراسات في الدعوة والدعاة، ص 62 – 65 دار الكتب الإسلامية - القاهرة

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير