تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

هذا الربط المتكرر في القرآن الكريم يدلنا على حقيقة مهمة، أن القرآن لا يحكم على أحد بالكفر إلا بقدر ما عرف من الحق وأنكر وبقدر ما قامت عليه الحجة ثم أبى أن يؤمن، ثم هو عند هذا الحد ليس عدوًا إلا لنفسه ولا يعاديه المسلمون إلا إذا اعتدى عليهم أو خان عهده معهم أو آذاهم، وبهذا المفهوم ينبغي ألا يفهم أن القرآن يحكم على كل من يخالف الإسلام بالكفر بل مناط الحكم بالكفر هو بلوغ الدعوة والحق بلاغًا واضحًا ثم رفض الإيمان والتصديق دون شبهة أو حجة، فهذا هو الكافر الذي حكم عليه القرآن الكريم بالعذاب الأليم في آيات عدة (وَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (البقرة: 104) ولقد نفى الله سبحانه وتعالى العذاب عن من لم تبلغه الدعوة فقال تعالى: (مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (الإسراء: 15) فبين سبحانه وتعالى أنه عادل لا يظلم أحدا فلا يحمل نفسا وزر أخرى ولا يعذب من لا تبلغه الدعوة ويقول أيضًا: (ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ) (الأنعام: 131) (وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ) (القصص: 59).

أجل: إن الله الهادي، الله النور، الله المقسط، لا يدع عباده حيارى من غير بيان يبصرون به مواقع أقدامهم وأمل صادق يبعث الحياة في مستقبلهم ويملأ بالنشاط يومهم؛ ولذلك أرسل أنبياءه لهم، وأقام في كل أمة من يشق لها الحجب، ويبعث في أفئدتها الضياء (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ) (فاطر: 24) وربما لا نعرف أسماء أولئك الدعاة الذين سيشهدون على الناس يوم الحساب غير أننا نوقن بأن الله لا يناقش الحساب أحدًا يجهل أصل الرسالة وفحوى الدعوة لأن عذره قائم (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (الإسراء: 15) والكفر الحقيقي في نظرنا جحد الحق بعد ما اتضح للبصيرة جوهره، وتألق أمامه إشعاعه، ومن ثم فالهمّل الذين لم تبلغهم دعوة الحق بأسلوب يحمل في طياته دواعي قبوله، يسمون كفارًا على المجاز، وإلا فهم جهال فحسب .. وقد كان الأنبياء ومن خلفهم على رسالاتهم نماذج جيدة في التحدث عن الله بألسنتهم، وكانوا قبل ذلك وبعده نماذج أجود في جذب الناس إلى الله بطيب أنفسهم، ونقاء معدنهم، وصفاء حيرتهم، ووصولهم في مدارج الكمال الإنساني إلى ذروة تزرع الإعجاب في القلوب وتذر الأتباع عشاقا لشمائلهم" [17].

يقول صاحب المنار: "وقال شيخنا: الكفر هنا عبارة عن جحود ما صرح الكتاب المنزل أنه من عند الله أو جحود الكتاب نفسه أو النبي الذي جاء به وبالجملة ما علم من الدين بالضرورة [بعد ما بلغت الجاحد رسالة النبي (صلى الله عليه وسلم) بلاغًا صحيحًا وعرضت عليه الأدلة على صحتها لينظر فيها فأعرض عن شيء من ذلك وجحده عنادًا أو تساهلاً أو استهزاءً نعني بذلك أنه لم يستمر في النظر حتى يؤمن] " [18].

ويقول الإمام أبو حامد الغزالي: "بل أقول: إن أكثر نصارى الروم والترك في هذا الزمان تشملهم الرحمة إن شاء الله تعالى، أعني الذين هم في أقاصي الروم والترك، ولم تبلغهم الدعوة، فإنهم ثلاثة أصناف:

- صنف: لم يبلغهم اسم محمد صلى الله عليه وسلم أصلاُ فهم معذورون.

- وصنف: بلغهم اسمه ونعته، وما ظهر عليه من المعجزات، وهم المجاورون لبلاد الإسلام، والمخالطون لهم، وهم الكفار الملحدون.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير