كلها عطاء و لكن لكل كلمة جرساً و همساً و نفساً و لفتة و دقة تختلف عن الكلمة الأخرى قطعاً، نعود الآن لكي نشرح الكلمات كلمة كلمة، و نبين كيف أستعملها القرآن الكريم و كيف وظفها ذلك التوظيف الهائل الذي يعطي ذلك التوظيف موضوعاً كاملاً تستطيع أن تكتب فيه بحثاً هائلاً بمجرد اختيار كلمة واحدة فالله سبحانه و تعالى قال: (و كان فضل الله عليك عظيماً) و لم يقل إنعامه عليك فالله منّ على الناس منّاً و تفضل على محمد تفضلاً لأن محمد متميز أفضل الناس.
نبدأ بكلمة البر: البر هو العمل الصالح الشاق بكل أنواعه مادام واجباً و إذا صار البر منك سجية و دأباً و عادة فأنت بَرٌ قال تعالى: (إن كنا ندعوه إنه هو البر الرحيم) [سورة الطور: 28].
فالبَر هو كثير البِر بالآخرين و ما من أحد أكثر براً بعباده من الله
و لو قال أنا أبر والدتي لما كانت لتعطي نفس المعنى لكنا نبر بأمهاتنا و لكن قد يحدث منا شيء في يوم من الأيام قد يعكر صفوها ونحن بارون بأمهاتنا و لكننا لم نصل إلى الحد أن نكون بَراً، البَر مطلق و البر نسبي فرب العالمين و هو بر فبره مطلق، فسيدنا عيسى عليه السلام من معجزاته كان بَراً مطلقاً بأنه و لم يسيء إليها يوماً هذا البر و حينئذ البر مأخوذ من البر ضد البحر و البر واسع و لو أن واقع الحال أن المياه أكثر من اليابسة و لكن كما نعرف أن المحيطات و البحار مساحتها أكبر من اليابسة و لكن ما قيمة ذلك إذا كانت حركتك في البحر محدودة أن لا تتحرك داخلها إلا في الفلك، فحركتك في البحار على سعة البحار هي حركة محدودة أما في البر فأنت تركد قال تعالى: (اركض برجلك هذا مغتسل بارد و شراب) [سورة ص: 42].
و قال تعالى: (الم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها) [سورة النساء: 97].
فمن البر و سعة البر أستخدم الله سبحانه و تعالى هذه الكلمات على كل الأعمال التي ينبغي أن يكون أداؤها واسعاً لاحظ دقة الآيات الكريمة، طبعاً نحن كلنا يعرف أن الأعمال متنوعة منها أعمال فروض و منها أعمال أركان وواجبات و منها سنن و هناك أوليات، رب العالمين يحدثنا عن الأمم لا تأبه بصغائر الأعمال تؤديها كيفما أتفق لا تقف عندها طويلاً لأنها مشغولة بأداء المهام العظمى فإذا رأيت الأمة تنشغل بصغائر الأمور فأعلم أن هذا دليل على عجزها، عاجزة، بليدة متخلفة جبانة، شحيحة تنشغل بصغائر الأمور:
قال الشاعر:
و تعظم في عين الصغير صغارها و تصغر في عين العظيم العظائم
العظيم يرى في مهام الأمور أنها سهلة و يقوم بها و كأنها سهلة و لكن الصغير ينشغل بالتفاهات و الصغائر.
لاحظ في القرآن لما حول الله القبلة وهو له المشارق و المغارب كيف ضج الناس من يهود و نصارى و مشركين قال تعالى: (سيقول السفهاء ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق و المغرب يهدي من يشاء على صراط مستقيم) [سورة البقرة: 142]. فجعلوا منها نقاش ومشكلة كبيرة و كأن الدنيا قامت و هذا دليل التفاهة قال تعالى: (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق ولكن البر من آمن بالله و اليوم الآخر و الملائكة و الكتاب و النبيين و آتى المال على حبه ذوي القربى و اليتامى و المساكين و ابن السبيل والسائلين و في الرقاب و أقام الصلاة و آتى الزكاة و الموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء و الضراء و حين البأس أولئك الذين صدقوا و أولئك هم المتقون) [سورة البقرة: 177].
فنلاحظ في هذه الآية أنها جمعت العمل الصالح الشاق من ألفه إلى يائه، ابتداءً بالإيمان بالله و انتهاءً باليوم الآخر و ما بينهما من إيمان بالرسل و الغيب.
قال تعالى: (و آتى المال على حبه ذو القربى و اليتامى و المساكين و ابن السبيل .. ).هذه كلمة عظيمة إياك أن تعتبرها إنشاء، فمثلاً واحد عنده مال هو أغلى من عينيه و المال أغلا من النفس من النفس يوم يبذل نفسه في سبيل ماله و لا يبذل ماله في سبيل نفسه و كم من إنسان قتل في سبيل ماله قال صلى الله عليه و سلم: (من قتل دون ماله فهو شهيد) [سنن النسائي: 1898].
¥