أما من حيث المضمون فهي بعيدة عن المطابقة الدقيقة للنظرية القرآنية، وترجع عيوب المضمون إلى: "ترجمات غير صحيحة وإما إلى تلخيص سيء، وإما إلى الأمرين معاً، وهو ما نجده واضحاً لدى المستشرق جول لا بوم Jules La Beaume ، في كتابه تحليل آيات القرآن " (باريس 1878) وهو مع ذلك أقل الأعمال التحليلية في هذا المجال بعداً عن التمام" (دستور الأخلاق، ص:3)
أما المكتبة الإسلامية فيلاحظ أنها لم تعرف سوى نوعين من التعاليم الأخلاقية: فهي إما نصائح عمليه هدفها تقويم الأخلاق، مثل رسالة ابن حزم "مداراة النفوس"، وإما وصف لطبيعة النفس وملكاتها وتعريف للفضيلة وتقسيم لها وإما توصيف لطبيعة النفس وملكاتها ثم تعريف للفضيلة وتقسيم لها، ترتب غالباً على النموذج الأفلاطوني أو الأرسطي، وربما تعاقب المنهجان معاً كما في كتاب الذريعة للأصفهاني [2] وفي كتب الغزالي لاسيما كتابه "إحياء علوم الدين".
وما وجد من مقاربات لقضايا أخلاقية في العلوم الإسلامية كالحسن والقبح والمسؤولية والأخلاق الصوفية، فإنها كانت أفكاراً متناثرة في مختلف المذاهب، وكانت تصدر عن روح المذهب الذي ينتمي إليه مؤلفوها، والقرآن لا يرد ذكره فيها إلا بصفة مكملة شاهداً أو برهاناً على فكرة أو أخرى سبق الأخذ بها. (دستور الأخلاق، ص:5)
وأما في المجال العملي فقد حاول الغزالي في كتابه "جواهر القرآن" أن يحلل جوهر القرآن، وأن يرده إلى عنصرين أساسيين أحدهما يتصل بالمعرفة (763 آية) والآخر بالسلوك (741 آية)، لكن هذا التصنيف لم يعقبه ما يبنى عليه، كما أنه صنفه على ترتيب السور، فكانت مجرد جمع لمتفرقات لا تربط بينها قرابة، ولا يظهر فيها تسلسل للأفكار، ففقدت الوحدة الأولى لكل سورة، ولم توجد وحدة منطقية تربط بين الأجزاء المختارة، أو تصنيف منهجي تقتضيه قاعدة التعليم. (ص:7)، وهذا شأن كتب أحكام القرآن أيضاً، فلم تحظ الأخلاق العملية بتأليف متماسك.
ويصل دراز من نقده لهذه المصادر إلى أنه لم ينهض أحد باستخلاص الشريعة الأخلاقية من القرآن في مجموعه، ولم يقدم أحد مبادئها، وقواعدها في صورة بناء متماسك مستقل عن كل ما يربطه بالمجالات القريبة منه.
في منهج الدراسة
كان السؤال الجوهري لمحمد عبد الله دراز في أطروحته هو: كيف يصور القرآن عناصر الحياة الأخلاقية؟، وكان هدفه الرئيسي في أطروحته إبراز الطابع العام للأخلاق التي تستمد من القرآن من الناحيتين النظرية والعملية، محاولاً فيها أن يسد ثغرة في مؤلفات علم الأخلاق العام، فكان هدفه صريحاً "ملء هذه الفجوة في المكتبات الأوربية، وحتى نري علماء الغرب الوجه الحقيقي للأخلاق القرآنية، وذلكم في الواقع هو هدفنا الأساسي من عملنا هذا" (دستور الأخلاق، ص:4).
ويميز ابتداء بين فرعين لعلم الأخلاق هما النظرية والتطبيق، ففي الجانب العملي استخلص النصوص ذات الصلة بالموضوع، لكنه لم يلتزم أن يستوعبها إنما يكتفي بما يدل على القواعد المختلفة للسلوك، مع تجنب التكرار، كما اعتمد النظام المنطقي في التصنيف بدل ترتيب السور أو الترتيب الأبجدي، وذلك حسب العلاقة التي سيقت القاعدة لتنظيمها.
أما في الجانب النظري فقد ركز اهتمامه على المجال الأخلاقي، ووضع كل مسالة في المصطلحات التي تصاغ بها لدى الأخلاقيين المحدثين، واتخذ من القرآن نقطة انطلاق للإجابة على كل مسألة، وبالرجوع المباشر إلى النص، وقد لاقى صعوبة كون النصوص المتعلقة بالنظرية الأخلاقية ليست بالكثرة والوضوح اللذين تمتاز بهما الأحكام العملية. (دستور الأخلاق، ص:13).
ويتساءل هنا تساؤلاً جوهرياً هو:"هل القرآن كتاب نظري؟ أو هل يمكن أن يلتمس فيه ما يلتمس، من المؤلفات والأعمال الفلسفية؟ " (ص:13)، ويسجل في إجابته الفروق بين التعليم القرآني والتعليم الفلسفي من حيث المصادر أو المناهج، لكن في الموضوع والهدف فإنهما يلتقيان، "فليس يكفي أن نقول: إن القرآن لا ينكر الفلسفة الحقة، وليدة التفكير الناضج، وعاشقة اليقين، ولا يكفي كذلك أن نقول: إنه يوافقها ويشجعها، وإنه يرتضي بحثها المنصف، بل ينبغي أن نضيف إلى ذلك: أنه يمدها بمادة غزيرة في الموضوعات، وفي الاستدلالات" (ص:15).
¥