يلاحظ أن القرآن إن لم يقدم الحقائق الأساسية مجتمعة في نظام موحد، فإنه مشتمل على جميع العناصر الأساسية للفلسفة الدينية: أصل الإنسان، ومصيره، وأصل العالم ومصيره ..
فالجهد الأكبر في الدراسة انصب في البحث عن أسس النظرية الأخلاقية في القرآن، ويصل إلى أن القرآن وضع قاعدة للسلوك شاملة ومفصلة وأتبعها بقواعد من المعرفة النظرية أعظم متانة وأشد صلابة.
وكان تصوره الأولي لمشروع عمله هو عرض القانون الأخلاقي المستمد من القرآن وبيانه النبوي، لكن لويس ماسنيون M. Louis Massignon أشار عليه أن يقارن بنظريات المدارس الإسلامية المشهورة، كما أن رينيه لوسن M. Rene Le Senne اقترح عليه أن يقارن ببعض النظريات الغربية، فاعتمد المقارنة في دراسته.
وكخلاصة لمنهجه يمكننا القول: إنه اعتمد التأليف المنهجي والتصنيف الجامع، فقسم عمله إلى دراسة نظرية وأخرى عملية، وقد استخلصها من القرآن الكريم، لكنه عالج المسائل الأخلاقية بحسب المفاهيم التي تعالج بها عند علماء الأخلاق المحدثين، فكان مفتاح الدراسة مصطلحات غربية في علم الأخلاق، أما في المضمون فكانت المادة العلمية قرآنية مقارنة بالدراسات الإسلامية السابقة وببعض الدراسات الغربية.
الأخلاق العملية:
يحدد خصائص وسمات الأخلاق العملية في القرآن بما يلي:
- حافظ القرآن على ما سبقه وكان استمراراً له، وتميز عنه بضمه جوهر القانون الأخلاقي كله.
- طريقة القرآن في صياغة دروس الماضين وتقريبها تميزت بتقديم تنوعها في وحدة لا تقبل الانفصام.
- ضم القرآن فصولاً جديدة كاملة الجدة في التعاليم الأخلاقية، وختمت إلى الأبد العمل الأخلاقي.
- تميز المنهج القرآني بالبساطة والوضوح، فكانت أقواله المبينة للقواعد الأخلاقية بين المجرد الغامض والمبهم وبين الحسي المفرط في الشكلية.
- يطمئن الأسلوب القرآن النفس الإنسانية إلى سعادة مزدوجة تجمع بين النقيضين، الخضوع في الحرية، واليسر في المجاهدة، وذلك بفضل أسلوبه المتمثل بلطف في حزم، وتقدم في ثبات، وتنوع في وحدة.
- استبعاد المبالغة والإفراط في (كيف؟ وكم؟) من القواعد القرآنية، ليتسنى للفرد أن يمارس طاقته العقلية والجسمية والخلقية بطريقة تختلف عن غيره.
وقد سرد نصوص الأخلاق العملية مصنفة في آخر الكتاب (ص:686 - 778)، وذلك في خمسة فصول هي: (الأخلاق الفردية، الأخلاق الأسرية، الأخلاق الاجتماعية، أخلاق الدولة، الأخلاق الدينية)، ثم ختمها بنصوص تجمع أمهات الفضائل الإسلامية، واكتفى في هذا القسم بسرد النصوص مصنفة حسب الفصول مع عناوين جزئية، وهي تمثل جواباً للتساؤل الذي يعقب العرض النظري للأخلاق: ماذا يجب أن أعمل؟ فالأخلاق العملية تجيب عن ذلك إذ نرى فيها طريقاً مرسوماً لنشاطنا في كل ميادين الحياة. (دستور الأخلاق، ص:688).
الأخلاق النظرية:
أما الأخلاق النظرية فقد قسم دراسته لها إلى خمسة فصول هي: (الإلزام، المسؤولية، الجزاء، النية والدوافع، الجهد)، وهي كما نرى من عناوينها مصطلحات حديثة درس من خلالها النص القرآني باحثاً عن سمات الواجب وعن طبيعة السلطة التي ينبعث عنها الإلزام أو التكليف، وعن درجة المسؤولية الإنسانية وشروطها، وعن طبيعة الجهد المطلوب للعمل الأخلاقي، والمبدأ الأسمى الذي يجب أن يحفز الإرادة للعمل، فاستخلص صيغاً تجيب عن سؤاله الجوهري: كيف يصور القرآن عناصر الحياة الأخلاقية؟
الإلزام
يرى أن الضمير الإنساني هو علامة التوحيد بين ثنائيات المثل الأعلى والواقع والمطلق والنسبي، ودوره هو التقريب بين هذين الطرفين، والربط بينهما في صورة العمل المتولد من اقترانهما، ويرى أن هذا هو نفس إدراك التكليف الذي يستخلص من المفاهيم القرآنية، كقوله تعالى:" فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ" (التغابن:16)، فهذه الكلمات تلفت أنظار المكلف نحو السماء، وتثبته على أسس متينة من الواقع، فيجتمع الطرفان المتعارضان: خضوع للقانون وحرية للذات، وهذا ممكن لأن الضمير الذي يخاطبه القرآن مستنير بفضل تعليم إيجابي حددت فيه الواجبات ورتبت بدرجة كافية، بل هو تعليم قائم على مواجهة واقع حي ومراعى إلى أقصى حد. (ص:126 - 127)
¥