تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

أمراً صعباً إن لم يكن مستحيلاً، أما «الإحاطة» التي أشار إليها الخضر، فهي ذلك الفهم الشمولي الذي فيه الكل غير منفصل عن الجزء، والتفاصيل منتظمة داخل منظومة أوسع، بشكل يجعلها فاعلة ومتفاعلة .. كل ما علمه الخضر لموسى كان يرتكز على إزالة الفهم الجزئي -للنص أو للواقع- وعلى إحلال رؤية شمولية تجمع النص بالواقع.

الرحلة فيها ثلاثة مواقف، يجعلنا السياق القرآني نمر فيها أولاً ونحن نرى بعدسة سيدنا موسى، فنكاد نهب معه معترضين على ما نرى، ثم يجعلنا السياق القرآني نمر على المواقف نفسها ولكن هذه المرة ونحن نرى بعين الخضر، فنرى كل شيء مختلفاً، ونوافق على ما فعل الخضر كما لو أننا لم نعترض قبل قليل، والفرق بين موقفنا في الحالتين هو الفرق بين الحكم المبني على الرؤية التجزيئية، والآخر المبني على الرؤية الشمولية .. في الموقف الأول، وعبر الرؤية التجزيئية نرى (السفينة)، ونرى الخرق الذي أحدثه الخضر، فلا نرى غير النتيجة المباشرة لهذا، ولذلك نقف مع اعتراض سيدنا موسى، لكن عبر الرؤية الشمولية، تتسع زاوية الرؤية فنرى السفينة ضمن محيطها الاجتماعي الأوسع، فلا تبقى السفينة مجرد ألواح وخشب، مجرد وجود فيزيائي، بل تصير مرتبطة بالنسيج الاجتماعي الذي يرتبط بهذه السفينة، فإذا عليها مساكين يعملون في البحر، ووراءهم ملك يغتصب ما يحلو في عينه من الممتلكات وبضمنها السفن، وهكذا سيبدو أمر المحافظة على السفينة، ولو بعيب، ولو بتعرضها لخطر يستطيع عمالها إصلاحها لاحقاً، أهم من المحافظة على سلامة ألواحها وخشبها، مقابل اغتصاب الملك لها.

في الموقف الثاني نرى أولاً «الغلام»، مجرد غلام لم يرتكب ما يستحق أن يُقتل من أجله، لذلك سنرى موسى محقاً في اعتراضه، لكننا لاحقاً نرى أن الغلام ليس معزولاً عن وسطه الاجتماعي، وأن له تأثيراً سلبياً على أقرب المقربين له: أبويه. إنه ذلك «الابن» الذي تتبين ملامح عقوقه وجحوده مبكراً، وتكون إزالته المبكرة، على ما في ذلك من ألم، أقل إيلاماً من الإبقاء عليه وعلى مشاكله وعلى ما سينتج عنه من سلبيات يكبر حجمها مع الوقت، لذلك فإن (قتله) هنا وفي هذه المرحلة، وبينما أبواه لا يزالان قادرين على الإنجاب، سيسبب لهما الألم حتماً، لكنه سيدفعهما إلى تكرار الإنجاب.

في الموقف الثالث نرى موسى والخضر وهما بحاجة إلى طعام وضيافة، وهنا سيكون من حق موسى المطالبة بأجر يقيم أودهما لقاء ما أقامه الخضر من جدار كان آيلاً للسقوط، لكن الرؤية الأوسع ستجعلنا نرى مجتمعاً آيلاً للسقوط، وليس فقط جداراً متهاوياً، مجتمعاً بلغَ أفراده حداً من الفردية والانغلاق لدرجة أن المجتمع مقبل على التشظي، الرؤية الأولى تجعلنا نرى جداراً يشرف على السقوط ومعدتين خاويتين، أما الرؤية الثانية فهي تجعلنا نرى بناءً اجتماعياً يشرف على السقوط وفقدانا آتياً لكل قيم العدالة والتكافل الاجتماعيين، «إقامة الجدار» هنا كانت عملاً ترميمياً يمد في عمر البناء، من دون أن يعني ذلك أن هذا هو الحل، فهذا المجتمع كان يحتاج إلى جيل جديد قادم (ممثلاً في الغلامين اليتيمين، النبتة الصالحة التي ذاقت معنى الظلم الاجتماعي)، وهو جيل سيستطيع أن يستثمر الكنز الدفين عبر هدم واعٍ لأسس هذا البناء الاجتماعي، هدم بتخطيط مسبق، وليس مجرد انهيار عشوائي .. أي: أن إقامة الجدار هنا كانت إطالة لعمره إلى حين الوقت الذي يجب أن يهدم فيه تماماً.

لكن لماذا لم يأخذ الخضر الأجر؟ ليس فقط لأن الاستثمار الأهم بعيد المدى كان في الكنز، ولكن لأن المطالبة بالأجر، بعد إقامة الجدار، قد تجعل صنفاً كهذا من الناس، يندفع إلى هدّ الجدار من أجل التهرب من دفع الأجر، وكان هذا سيكشف الكنز، لذا كان يجب تناسي الأمر من أجل ذلك الاستثمار ربحاً، الذي سيأتي على يد جيل آخر، قادم لا محالة.

الخرق الذي أحدثه الخضر لم يكن في السفينة فقط، بل كان خرقاً في ذلك الفكر التجزيئي الذي يجعلنا نعجز عن رؤية ما هو أبعد من أطراف أنوفنا. إنه خرق يجعلنا نرى العالم من زاوية أوسع، زاوية أكثر شمولية وانفراجاً، فإذا بالنصوص تتمكن من المساهمة في إعادة بناء العالم، بدلاً من أن نجدها متخبطة وقد سلبت منها فاعليتها.

ما يلفت النظر هنا، أن كل موقف من هذه المواقف الثلاثة، ابتدأ بـ (وانطلقا)، كما لو أن نقطة الانطلاق الحقيقي إلى الواقع يجب أن تمتلك عدة الفهم الشمولي، لكي تتمكن من إعادة تشكيل الواقع .. لا الذوبان فيه مع الرؤية التجزيئية .. كما لو أن الانطلاق إلى النهضة الحقيقية لا يمكن إلا من هذه المنصة: منصة الفهم الشمولي.

وسيكون من المؤسف جداً هنا، أن نرى كيف تحول هذا السرد الباعث للحياة إلى مادة أسطورية مليئة بالخرافات عن رجل لم يعرف الموت .. وله في كل بلد مقام تقدَّم له نذور هي بالتأكيد المثال العملي لكل ما هو ليس من الإسلام.

مقام الخضر الحقيقي ليسَ هناك. بل مقامه هنا. في هذا السرد القرآني لعملية النزول إلى الواقع .. وعندما نبث الحياة في الفهم الشمولي المنبعث من هذا السرد، فإن الواقع سيخضر ويثمر .. وستنهار تلك الهياكل الخرافية، التي كانت آيلة للسقوط طول هذه الفترة.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير