تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

أي أن العذاب الذي نزل بهم لم ينزل صافيا بل كان مخلوطا, فما بالنا بالعذاب الذي سينزل يوم القيامة! –وقنا الله وإياكم شره وحره-, ولقد نزل هذا العذاب بعدما طغوا وتجبروا وتكبروا لأن " إن ربك لبالمرصاد". فلا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون. فالله عزوجل بالمرصاد وهو مفعال من الرصد وهو بمعنى المراقبة والتهيئ والإعداد وكما جاء في المقاييس:

"الراء والصاد والدال أصلٌ واحد، وهو التهيُّؤُ لِرِقْبةِ شيءٍ على مَسْلكِه، ثم يُحمَل عليه ما يشاكلُه. يقال أرصدتُ له كذا، أي هيّأْتُه* له، كأنّك جعلتَه على مَرصَده. وفي الحديث: "إلاّ أنْ أُرْصِدَه لدَيْنٍ عَلَيّ" وقال الكسائيّ: رصدتُه أرصُدُه، أي ترقَّبتُه؛ وأرصَدْت له، أي أعدَدْت .... " اهـ

إذا فالله راقب لأفعال العباد معد لهم –في الدنيا والآخرة- ما يناسبها من الثواب والعقاب, وقد يتأخر هذا الجزاء ثوابا أو عقابا ولكنه نازل نازل لأن الله تعالى بالمرصاد.

ثم ينتقل الله عزوجل ليوضح للإنسان أنه غافل عما ذكره الله عزوجل في أول السورة وكيف أنه ينسى أن الله عزوجل بالمرصاد وليست العبرة بالقريب وإنما العبرة بما يؤول إليه الإنسان –أو الأمة كلها- فهذا هو الجزاء الحقيقي الباقي! فيقول: "فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) " فيوضح الله عزوجل أن عملية الشفع والوتر التي ذكرها في أول السورة هي من الابتلاء الذي ينزل بالناس أمما وأفرادا لعلهم يحمدون أو يتضرعون ولكنهم ينسون! فيقول: " فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ .... " فالإعطاء والإكرام والتنعيم هو ابتلاء من الله عزوجل لينظر أيشكر أم يكفر " ........ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ [النمل: 40] " فيظن الإنسان أن الله عزوجل بعطائه إياه فإنه راض عنه وأن الله عزوجل أكرمه " وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلَاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [سبأ: 35] " فيظن الإنسان أن عطاء الله دليل على الرضا والإكرام وإذا حدث وكان هناك بعث فسيكون هناك كذلك من الفائزين " وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنقَلَباً [الكهف: 36] " فينسى الإنسان شكر الله ويكفره! وإذا حدث الابتلاء بالشكل المغاير وكان الابتلاء بتقدير الرزق –ولا يشترط في تقدير الرزق تضييقه , بل قد يكون لدى الإنسان ما يكفيه ولكنه ينظر إلى من فتح الله لهم في الرزق! - فيظن أن في هذا إهانة من الله عزوجل له! فيرد الله عزوجل على هذين الظنين الباطلين ويوضح أن الإكرام والمهانة أو توسيع الرزق وتضييقه راجع كذلك إلى بعض العوامل في مجتمع الإنسان – والمراد من الإنسان في الآية جنس الإنسان وعامته بدليل الانتقال من المفرد إلى الجمع "تكرمون, تحاضون .... " – فإذا أتى الناس بهذه الأفعال قٌدّر عليهم في أرزاقهم وظهر فيهم الفساد الذي يؤدي إلى إهلاكهم, -وبداهة إذا أتوا بمعكوسها فينصلح حالهم ويفوزوا في الدنيا , وإذا كانوا من المؤمنين فازوا في الدارين- ويكونوا هم بهذا هم الذين أهانوا أنفسهم! وهذه الأفعال هي: " كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20) " فإذا كان في المجتمع إهمال لمن مات أبوه وتضييع له, وعدم اهتمام بالضعفة المساكين وكذلك هناك أكل تام شامل للتركات وتضييع لأصحابها وكذلك تكالب على جمع المال وحب شديد له يلهي عن غيره فهنا ينزل حتما العذاب بذلك الإنسان اللاهي الغافل , وهنا تكون الإهانة الحقيقية , فليست الإهانة في تقدير الرزق وإنما الإهانة عند تحقق هذه العناصر في المجتمع, فإذا تحققت ظهر الفساد وعمت الأثرة في المجتمع وغلب الحقد والتشاحن بين الأفراد فيقودهم هذا إلى المهانة وإلى الهلاك!

ثم يقول الله عزوجل مرة أخرى " كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) " فيوضح للإنسان بقوله "كلا" أن ما في الدنيا ليس هو الإكرام والإهانة وإنما يكون الإكرام والإهانة الحقيقيين في الآخرة, فكل ما في الدنيا هو خلط أوجزاء بسيطة فإذا جاءت الآخرة كان الأصل والدوام. ف " إذا دكت الأرض دكا دكا وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) "

ونلاحظ أن هذه هي السورة الوحيدة التي ذكر فيها "جاء" لله عزوجل, فلم يذكر مجيء أو ذهاب لله عزوجل في القرآن كله! ونلاحظ أن الله جاء والملائكة صفا صفا وكذلك "جيء يومئذ بجهنم" فجهنم كذلك موجودة في المشهد! فلماذا جاء الله عزوجل؟ لأن الله تعالى بالمرصاد في الدنيا وهناك الكثير ممن يرون فعله ينكرون أن يكون موجودا فيجيء الله عزوجل في اليوم الآخر بشكل هو وحده أعلم به! (ونلاحظ أنه "جاء" وليس "أتى" فتنبه!) فيحاسب العباد الحساب التام الكلي على أفعالهم فيجازيهم عليها بالعدل فلا يظلم أحد شيئا.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير