ثم لو سلمتُ أنّها هي سببُ إسكان آخر المضارع، فلن أسلّم أنّ هذا إعرابٌ مقدَّر؛ بل هو بناءٌ، لأن قياسَ الشبه لا يقوَى على إخراجِ الكلمة عن أصلِها، ثمّ يبقَى أصلاً لها افتراضيًّا. وهذا التفريقُ بين الإعراب المقدّر، والبناء، يوجِبه (قانون الأصل الافتراضي)، من قِبَل أنّ من شرطِه أن يكون المتخلّف عنه إنما تخلّف لعلةٍ قويةٍ، وقد تقدَّم بيانُ درجاتِها.
وحسبي بهذا بيانًا لفائدة فَهم العلل، والممايزة بينها، والبصَر بقوانين الاحتجاجِ. بل إني لا أعُد نحويًّا من لا يفهمُها، لأنه إذا لم يفهمها، لم يستطع أن يتصدّى للمسائل الحديثة المشكلة، ولا أن يردّ الشيء منها إلى نظيره، ولا أن يعرف مذهب العرب وسبيلَهم في مثله.
وهذه العلل ليست مستنبطة من عالم الخيالِ، وليست ضربًا من الترفِ، ولا عبثًا من القول؛ وإنما هي مستنبطة من استقراء كلام العرب، وتتبع أحوالهم في الوضع، وإجراء الأحكام. ومدارُ النحو، وبناؤه الذي قام عليه، إنما هو العلل (أعني الثوانيَ خاصّةً)؛ فلو أسقطتَها، لسقط النحوُ؛ فلم يبقَ نحوٌ، ولاختلت حدودُ الكلامِ، وأصولُه؛ فلم يعلمِ خطأ من صوابٍ، ولا حقّ من باطلٍ.
وأنا أوافق النحاة في ضرورة العناية بالعلل، والالتفات إليها، وضرورة الجدل المتكئ على فَهم واقع اللغةِ، والنطق بما توحي به طبيعتُها وطبيعةُ أهلها؛ ولكني أخالفهم في كثيرٍ جدًّا من المسائل، وسيخرجُ بهذا كلّه كتابٌ لي إن شاء الله، وكان لي في العُمر مُهْلةٌ.
فلذلك لستُ مسئولاً عمّا يقول النحاةُ، ولا عمّا فعلوا؛ إنما أنا مسئولٌ عما أقولُ، وأفعلُ.
أما هذه الأسئلة التي وضعتُها أطلب جوابها من الإخوةِ، فليست مناي، وهمّي، ولا إليها مقصَدي؛ ولكني أردتُّ بها رياضة العقولِ، وتعويدَها التفكيرَ، والتعمق في النظَر؛ فإنما النحو منطقٌ؛ فمن أخذ منه بحظّ وافرٍ، ظهر أثرُ ذلك جليًّا في فكرِه، وعقلِهِ، وفاقَ أترابَه.
أما تعقيد النحو، فليس لهذه العللِ؛ وإنما هو راجعٌ إلى غلَبة المنطق اليونانيّ على المنطق الفِطريّ السليمِ، وإلى أمورٍ أخرَى كثيرةٍ ليس هذا موضعَ الإفاضةِ فيها.
أبو قصي
ـ[أبو قصي]ــــــــ[12 - 10 - 2008, 08:38 م]ـ
وهُنا سُؤالٌ:
قد تقرَّرَ أنَّ الأصلَ المفترضَ للإعرابِ أن يَّكونَ بالحركاتِ. ومنَ المعلومِ أنَّ الأمثلةَ الخمسةَ من الأفعالِ تُعربُ بالنونِ، ثُبوتًا، وحذفًا.
وأنا أسأل:
ما العلةُ التي جعلتهم يعربونَ (يفعلون) - مثلاً - بثبوتِ النونِ في الرفعِ، وحذفها في النصبِ، والجزمِ؟
لِمَ لم يعربوها بالحركاتِ، أو بالواو الموجودةِ، أو بواوٍ أخرى مزيدةٍ؟
ولِمَ اختاروا النونَ خصوصًا؟
ولِمَ ساوَوا بينَ النصبِ، والجزمِ؛ إذ حذفوا النونَ، معَ أنَّهما مختلِفانِ، كما في المضارعِ المجرَّدِ الصحيحِ منه، والمعتلِّ؟
أنتظرُ آراءَكم، معَ الشكرِ.
أبو قصي
هل من مَّجيبٍ عن هذا السُّؤالِ غير الأخ / عبدِ العزيز؟
ـ[أبو عمار الكوفى]ــــــــ[12 - 10 - 2008, 09:15 م]ـ
هل من مَّجيبٍ عن هذا السُّؤالِ غير الأخ / عبدِ العزيز؟
أستاذنا:
أعتقد أن إعراب الأمثلة الخمسة بالحرف وليس بالحركة؛ لكونها زادت عن الأصل باتصال الضمير بها (الواو، اللف، الياء) فهي تشبه المثنى والجمع في زيادتهما عن صورة المفرد، فاستحقّا إعرابَ الفرع، فكون هذه الأفعال فروعًا أجرى عليها الإعراب الفرعي.
كذلك لم تجعل الضمائر حروف إعراب؛ لأن لها محال؛ فهي كلمات بذواتها، ولو كانت علامات إعراب فإنها حتمًا ستسقط عند الجزم، فكيف يكون الفاعل علامة إعراب، ثم كيف يحذف؟!
أما كون الإعراب بالنون (ثبوتًا وحذفًا) فلمشابهتها حروف المدِّ، ومن ثمَّ وقعت -النون - بعد الألف والواو والياء في المثنى والجمع.
أمّا الرفع بالثبوت فلكون الرفع مقدمًا على غيره وهو أشرف أنواع الإعراب؛ إذ هو إعراب في العُمَد، فأخذ الثبوتَ؛ لشرفه.
أما الحذف فهو أصل في الجزم في هذا الباب وغيره وحُمل النصب عليه؛ لكون ذلك ليس بجديد على النصب؛ إذ في المثنى والجمع والمجموع بالألف والتاء يُحمل النصب على الجر، والجرُّ في الأسماء مقابل للجزم في الأفعال.
والله أعلم
ـ[ضاد]ــــــــ[12 - 10 - 2008, 09:17 م]ـ
لولا أني أتحاشى أسلوبك في النقاش لكنت شاركت.
ـ[أبو عمار الكوفى]ــــــــ[12 - 10 - 2008, 09:32 م]ـ
لولا أني أتحاشى أسلوبك في النقاش لكنت شاركت.
إخوتي، وأساتذتي:
لننس ما كان، ولا تضيعوا طلبنا للعلم منكم وتنشغلوا بما يضيع اللغة نفسها.
فما أضرَّ اختلافَ أهل اللسان الواحد وتعنتهم في آرائهم! ليكن كلٌّ منّا حجرًا بنّاءً في صرح لغتنا، أرجوكم لا تهدموا الصرح فيقع فوق أم رأسكم.
إن اللغة لا تموت بموت أجساد أهلها، وإنما تموت بموت عقولهم.
دعونا نوسع صدورنا، من ينتصر لنفسه فليس له مكان بيننا.
من ينتصر للسان أمته، ويزود عنها كل هادم، ويسقط الحجة بوضوح، ويدمغ الدليل بالدليل دون انتقاص أو تجريح لا لرأي ولا لشخص، من يفعل هذا فإنا نسمع له ونطيع.
أما من تنكب الطريق ورأى نفسه فوق العربية وأنه محيط بمجامع العربية فلا ريب أنه نبي، فلا يحيط بالعربية إلا نبي، فلا مكان له بيننا.
ولا تنسوا إخوتي وأساتذتي: كلنا يصيب ويخطئ.
وما تعلمنا ما تعلمنا لنهدم علم أمتنا، واختلافنا يصب في مصلحة العربية.
وإنما يدمغ الدليل بالدليل، وليكن الأدب هو الدائرة التي تجمعنا، ولأن أتأدب مع أخي فيدوم بييننا تآلف برغم البين، خيرٌ من أن يتَّبع رأيي وهو لي مبغض.
وليكن لنا في منهاج القرآن والسنة أسوة.
ولا تنسوا: كلنا متعلمون.
أحسن الله إليكم أجمعين.
¥