فلا زالتْ ديارُك مشرقات ... ولا دانيتَ يا نجم الغروبا
والتلميح إلى الأديب الذي ذكره أبو الطيب المتنبي في قصيدته التي يمدح بها علي بن سيار بن مكرم التميمي، وأولها:
ضروب الناس عشاق ضروبا ... فأعذرهم أشفهمُ حبيبا
ومنها:
اعزمي طال هذا الليلُ فانظُرْ ... أمنكَ الصبحُ يَفْرَقُ أن يئوبا
كأنَ الفجرَ حِبُ مُستزارُ ... يُراعي من دُجُنته رقيبا
كأن نجومه حَلْىُ عليه ... وقد حُذيِتْ قوائمه الجَبُوبا
كأن الجوَّ قاسى ما أقاسي ... فصار سوادهُ فيه شُحوبا
كأن دُجاه يجذبها سُهادي ... فليس تَغيبُ إلا أن يَغيبا
الضمير في: ليس تغيب يعود إلى دجاه، وهي جمع دجية، وفي: إلا أن يغيبا يعود إلى سهادي. ومنها:
أقَلبُ فيه أجفاني كأني ... أعُدَّ به على الدهر الذُّنوبا
وما ليلُ بأطول من نهار ... يظلُ بلحظ حُسادي مَشوبا
مأخوذ من قول امرئ القيس:
فقلت له لما تَمطىَّ بصُلْبه ... وأردف أعجازاً وثاء بكلكل
إلا أيها الليل الطويل ألا انجلى ... بصبح، وما إلا صباح منك بأمثل
ولو لم يكن لأبي الطيب إلا هذه الأبيات، لاستحق أن يتقدم بها على كل من تكلم بقافية، ومنها:
أيا من عاد روحُ المجدِ فيه ... وعاد زمانهُ البالي قشيبا
تَيَمَّمَني وكيلكُ مادحاً لي ... وأنشدني من الشعر الغريبا
قال أبو الحسن علي بن أحمد: سمعت الشيخ أبا المجد كريم بن الفضل قال: سمعت والدي أبا بشر قاضي القضاة قال: أنشدني أبو الحسن الشامي الملقب بالمشوف المعلم قال: كنت عند المتنبي فجاء هذا الوكيل، فأنشده هذه الأبيات وهي:
فؤدي قد انصدع ... وضِرسي قد انقلع
وعَقْلِلي لِلَيْلَتي ... قد انهوى وما رجع
يا حبَّ ظبي غَنجٍ ... كالبدر لما أن طلع
رأيته في بيته ... من كُوَّة قد اطّلعْ
فقلت تِهْ تِهْ وتِه ... فقال لي مُرّ يا لُكعَ
هات قِطَعْ ثم قِطعِ ... ثم قِطَعْ ثم قِطعْ
وضع بكفيّ ففيّ ... حتى أدعكك يضع فَضَعْ
فهذا الذي عناه بقوله، وأنشدني من الشعر الغريبا، ثم قال المتنبي:
فآجرك الإلهُ على عليلٍ ... بعثتَ إلى المسيح به طبيبا
ولستُ بمنكر منك الهدايا ... ولكن زدتَني فيها أديبا
فلا زالت ديارك مشرقات ... ولا دانيت يا شمس الغروبا
ومما يندرج في هذا الباب، ما ذكر في بعض كتب الآداب، وملخصه أن بعض الشعراء ألجأته الضرورة، فقصد نادي بعض الوزراء، وحملته دقة حاله على أن تقاضاه في الطلب، واشتكى في زمانه كساد سوق العلم والأدب، وأنشده لأبي تمام:
أكابَرنا عطفا علينا فإننا ... بنا ظمأ بَْحُ وأنتمْ مناهلُ
فأعرض عنه، ولم تجده الوسائل، ثم قال له من القائل؟
الحبُّ ما منع الكلامَ الألسنا ... وألذُّ شكوى عاشق ما أعلنا
فقال: هو للذي يقول:
بِنَّا فلو حَلَّيتْنَا لم تَدْرِ ما ... ألواننا مما امتُقعِن تلوّنا
والبيت الذي أنشده الوزير مطلع لأبي الطيب المتنبي، ومراده التلميح إلى قوله في أثناء هذه القصيدة:
وانْهَ المشير عليك فَّي بِضَلَّة ... فالُحرُّ ممتحَنُ بأولاد الزَّنا
فلما علم ما قصده الوزير ذلك الشاعر أجابه بالبيت الثالث من القصيدة، ومراده التلميح إلى بيت ثالث من مقصده، وهو:
ومكايدُ السفهاءِ واقعةُ بهم ... وعداوةُ الشعراء بئس المُقْتَنَى
وكان الوزير مغرما بابنة السلطان، وقد بدا من شأنهما ما نقلته الركبان، فتوسل ذلك الشاعر إلى أن أوقف أباها على جلية الخبر واستفهم عنه، فإذا هو أظهر من القمر، وكأن أجل ذلك الوزير قد دنا، فقتل،
عداوة الشعراء بئس المقتنى
من التلميحات الخفية ما يحكى عن رجل من المناقذة أصحاب حصن شيرز، وهو أولهم الذي استنقذهم، وكان قبل ملكه إياه في خدمة محمود بنصالح صاحب حلب، وكان إذ ذاك يلقب سديد الملك، فبينا هو في مكانه إذ حدثت له حادثة أوجبت أن هرب، ومضى إلى مدينة طرابلس في زمن بني عماد أصحاب البلد، فأرسل إليه ابن صالح، واستعطفه ليعود إليه، فخافه، ولم يعد، فأحضر ابن صالح رجلاً من أهل البلد صديقاً لابن منقذ وبينهما لحمة مودة أكيدة، فأجلسه بين يديه، وأمره أن يكتب إليه كتاباً عن نفسه يوثقه من جهة ابن صالح، ليعود، فما وسعه إلا أن يكتب، وهو يعلم أن باطن الأمر خلاف ظاهره، وأنه متى عاد ابن منقذ إلى حلب، هلك، فأفكر وهو يكتب الكتاب في إشارة عمياء لا تفهم، ليضعها فيه، يحذر بها ابن منقذ، فأدار فكره إلى أن كتب في آخر الكتاب عند انتهائه، إن شاء الله تعالي، وشدد إن وكسرها، وضبطها، ليعلم منه الفطن الذكي أنه ليس عن سهو، ثم سلم الكتاب إلى ابن صالح، فوقف عليه، وأرسله إلى ابن منقذ، فلما صار في يده، وعلم ما فيه، قال: هذا كتاب صديقي، وما فيه، قال: هذا كتاب صديقي، وما يغشني، ولولا أنه علم صفاء قلب ابن صالح ما كتب إلى، ولا غرني، ثم عزم على العود، وكان عنده ولده، فأخذ الكتاب، وكرر نظره فيه، ثم قال: مكانك، فإن صديقك قد حذرك، وقال: لا تعد، فقال: وكيف ذاك؟ قال: إنه كتب إن شاء الله تعالى في آخر الكتاب، وشدد إن، وكسرها وضبطها ضبطاً صحيحاً لا يصدر مثله عن سهو، ومعنى ذلك أنه يقول: إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك، وإن شككت في ذلك فأرسل إلى صديقك فاسأله، فأرسل إليه، وسأله، فقال: هو ما قال ولدك، فأقام، ولم يعد إلى حلب
¥