[تلميحات]
ـ[أبو همام الطنطاوي]ــــــــ[01 - 06 - 2008, 11:58 م]ـ
الحمد لله وبعد
فقد اشتهر عن العرب حدة الذكاء والمكر والدهاء
وكانوا أبدا يقرأون ما بين سطور الكلام
وقد اشتهرت فيهم حكايات من الطرافة بمكان.
وقد أحببت أن أعرج علي بعض مما يقصونه في هذا الباب لملاحته
ولعلنا نستفيد شيئا "ونبطل أكل الفول"
يحكى أن أبا العلاء المعري: كان في بعض الأيام حاضراً في مجلس الشريف المرتضى، فجرى ذكر المتنبي، فهضم المرتضى من جانبه، فقال المعري: لو لم يكن له من الشعر إلا قوله:
لك يا منازلُ في القلوب منازل
لكفاه، فغضب المرتضى، وأمر بإخراجه، وقال أتدرون ما عنى؟ فقالوا: لا. قال: عني به قول المتنبي:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص .. فهي الشهادة لي بأني كامل
وتروي أيضا عن هذا المعري لكن مع الخليفة العباسي وقتها
ومن التلميح بهذا البيت ما حكاه صاحب الحدائق أن الفتح بن خاقان ذكر ابن الصائغ العقيان، فقال فيه: رمد عين الدين، وكمد نفوس المهتدين، لا يتطهر من جناية، ولا يظهر مخايل إنابة. فبلغ ذلك ابن الصائغ، فمر يوماً على الفتح بن خاقان، وهو جالس في جماعة، فسلم على القوم، وضرب على كتف الفتح، وقال له: إنها شهادة يا فتح، ومضى. فلم يدر أحد ما قال إلا الفتح، فتغير لونه، فقيل له ما قال لك؟ فقال: إني وصفته كما تعلمون في قلائد العقيان، فما بلغت بذلك عشر ما بلغ هو مني بهذه الكلمة، فإنه أشار بها إلى قول المتنبي: وإذا أتتك الخ
ومن التلميح ما قيل: إنه دخل على سيف الدولة بعض الشعراء فقال أيها الأمير: بماذا تفضل علي ابن عيدان السقا؟ قال لحسن شعره، فقال أيها الأمير. اختر أي قصيدة له حتى أعارضها، بأحسن منها، فقال سيف الدولة: عليك بقصيدته التي أولها:
لعينيكِ ما يلقى الفؤادُ وما لقى ... وللحب ما لم يبق مني وما بَقى
فلم يرها من مختاراته، فأمعن النظر، فرأى في أثنائها:
بلغتُ بسيف الدولة النور رتبةً ... أنَرتُ بها ما بين غرب ومشرق
إذا شاء أن يلهو بلحية أحمق ... أراه غُباري ثم قال له: الحق
فامتنع عن معارضتها، وعلم قصد سيف الدولة.
قال ابن بسام في الذخيرة، إن أبا عبد الله بن شرف قال يوماً للمأمون ابن ذي النون أيام خدمته إياه، واستشفافه صبابة عمره في ذراه وقد أجروا ذكر أبي الطيب، فذهبوا في وصفه كل مذهب: إن رأى المأمون) لا فارق العزة والعلاء (أن يشير إلى أي قصيدة شاء من شعر أبي الطيب حتى أعارضه بقصيدة تنسى اسمه، وتعفى رسمه، فتثاقل ابن ذي النون عن جوابه علما بضيق جنابه، وإشفاقاً من فضيحته وانتشابه، وألح أبو عبد الله حتى أحرج ابن ذي النون، وأغراه، فقال له: دونك قوله:
لعينيك ما يلقى الفؤاد وما لقى
فخلا بها ابن شرف أياماً فوجد مركبها وعراً ومريرتها شزرا، ولكنه أبلى عذراً، وأرهق نفسه من أمرها عسراً؛ فما قام ولا قعد، ولا حل ولا عقد. وسئل ابن ذي النون بعد. أي شيء أقصده إلى تلك القصيدة؟ فقال: لأن أبا الطيب، يقول فيها: بلغت بسيف الدولة النور رتبة، وأنشد البيتين. قال ابن بسام وقد حدثت أيضاً أن أبا علي بن شيق ناجي نفسه بمعارضة أبي الطيب في بعض أشعاره، وراطن شيطانه بالدخول في مضماره، فأطال الفكرة، وأعمل النظرة بعد النظرة، فاختار من شعره ما لم يطر ذكره، ولا انحط قدره، فأداه جهده، وذهب به نقده، إلى معارضة قوله:
أمن ازديارك في الدجى الرقباء
فبث عيونه، واستمد شياطينه، فلم يدع ثنية إلا طلعها، ولا دوية إلا اتسع لها، فوسعها، ثم صنع قصيدة رأى أنها مادة طبعه، ومنتهى طاقة فنه ووسعه، ثم حكم نقده، ورضى ما عنده، فرأى أن قد قصرت يداه، وقصر مداه، وعلم أن الإحسان كنز لا يوجد بالطلب.
ومن التلميح ما كتبه العلامة عماد الفضائل والآداب سمى من ألف برسمه هذا الكتاب إلى مضاهيه ومثليه، ورسيله في الفضل وزميله، شيخنا النجم الذي بنوره تشرق الدجنة، وأرسله من دمشق إلى حلب مع هدية، من جملتها أديب عليه سيمياء أهل الجنة:
أنجم الدين مَنْ مَلك القلوبا ... فقلبي في حِماه لن يثوبا
أخي فكأنَّ أمّضا أرضعتنا ... معا في الشام أو حَلَب الحليبا
ومَنْ لي بعادي عنه همُ ... عسى ألقى له فرجا قريبا
لقد أهديتُ قاضينَا إليكم ... لينشدكم من الشعر الغريبا
ولطُفك ليس يُنكر في الهدايا ... على من زاركم فيها أديبا
¥