للطناحي مؤلفات أصيلة دار أكثرها حول نشر التراث، وهو العلم الذي قضى حياته خادمًا له، من ذلك كتابه النفيس "مدخل إلى تاريخ نشر التراث العربي" تعرض فيه لبواكير نشر التراث العربي، وتتبع مداخله في مصر وغيرها، وعرض لمراحل تطوره والأدوار التي مر بها، ومدارس التحقيق وأعلامه في مصر والعالم العربي، وتطرق لجهود دور النشر الأهلية والرسمية في نشر التراث. وله أيضًا: الموجز في مراجع التراجم والبلدان والمصنفات وتعريفات العلوم.
وتعد المقدمات التي كان يكتبها الطناحي للكتب التي قام بتحقيقها كتبًا أصيلة، تحدد أصول المنهج الذي ينبغي أن يلتزم به من يقوم بالتحقيق.
ووضع فهارس علمية لبعض كتب التراث، وهي تعد نماذج لما يجب أن تكون عليه الفهرسة للكتب التراثية، وهو عمل يحتاج إلى دقة ودأب وصبر، فوضع فهرسًا لكتاب "الأصول في النحو" لابن السراج ونشره في القاهرة سنة (1407هـ = 1986م)، [وتحدثاً بنعمة الله تبارك وتعالى كنتُ أنا يحيى مصري قد سبقته إلى صنع هذا الفهرس الذي صدّرته بمقدمة موجزة عن علم أصول النحو]،وفهرس الأشعار لكتاب "ديوان المعاني" لأبي هلال العسكري، ونشره في العدد السابع والثلاثين من مجلة معهد المخطوطات العربية. وله بحوث علمية دقيقة نشرها في المجلات العلمية المتخصصة.
وفي العشر السنوات الأخيرة من حياته طلع على الناس بمقالاته البديعة التي كان يكتبها بانتظام في مجلة الهلال فكشفت عن جوانب جديدة، وأبانت عن تمكنه الشديد من الثقافة العربية، مع قدرة على الإبانة في أسلوب طلي جذاب، ومن يطالع هذه المقالات يعرف أن الرجل قد احتشد لها واستعد فهي ليست مما يقرؤه الناس من بعض الأقلام تحمل خواطر وآراء، وإنما هي تحمل علمًا وأدبًا، يدهشك ما ينثره بين ثنايا مقالاته من فوائد لغوية وتاريخية، هي خلاصة خبرته وملازمته للكتب ومشافهته أهل العلم.
شخصية الطناحي
جمع الطناحي إلى علمه الواسع صفات وخلالا أسرت كل من التقى به وخالطه وجالسه فهو كريم الخلق، نقي النفس، خفيف الروح، عذب الحديث، فإذا تكلم وحكى بهر جلساءه بظرفه وفصاحته ونوادره التي لا يمل حديثها، فكان زينة المجالس والمحافل مع هيبة واعتداد بالنفس.
وهو وفي لشيوخه ومعلميه كثير الدعاء لهم إذا استشهد بواحد منهم أو عرض لذكراه، فإذا كانوا من الأحياء دعا لهم بمثل قوله: أطال الله في الخير بقاءهم"، وإذا كان أحدهم من الأموات قال: "برَّد الله مضجعه" أو "طيَّب الله ثراه".
وعلاقته بشيخه محمود محمد شاكر مثال نادر للوفاء يقدمه تلميذ لشيخه، فكان دائم الثناء عليه، ذاكرًا له في كل موضع، معترفًا بفضله، حريصًا على حضور مجلسه الأسبوعي في منزله في يوم الجمعة مهما كانت الشواغل، وكان الطناحي لا يترك مناسبة إلا ذكر الناس بفضل شيخه وقيمته في الثقافة العربية، يقول عنه في أحد المواضع من كتابه "مدخل إلى تاريخ نشر التراث": "كيف أكتب عنك أيها الشيخ الجليل، ومن أين أبدأ، وكيف أمضي وإلى أين أنتهي؟ فالحديث عنك إنما هو عن تاريخ هذه الأمة العربية: عقيدة ولغة وفكرًا ورجالاً .. ومعذرة ثم معذرة شيخي أبا فهر إذ أكتب عنك بهذه الوجازة التي تراها .. ثم معذرة من بابة أخرى، وهو أن كثيرًا مما ستقرؤه إن شاء الله منتزع من كلامك، مدلول عليه بفكرك، فأنا إنما أكتب عنك بك، وأتقدم إليك بسابق فضلك وموصول علمك ... ".
وهو مع تلاميذه كأحدهم ولكن في وقار، يأنس بهم ويعاونهم ويشجعهم على طلب العلم، ويفتح لهم مغاليق العلم، وكانت روحه دائمة الشباب، لا تستشعر إذا جالسته أنك أمام عالم تخطى الستين من عمره.
وبعد وفاة محمود محمد شاكر تطلع الناس إلى تلميذه الوفي ليكون خليفته ويواصل مسيرته في خدمة التراث العربي، لكن الموت لم يمهله فاختطفه فجأة وهو في أتم صحة وعافية في (6 من ذي الحجة 1419هـ = 23 من مارس 1999م).
* من مصادر الدراسة:
· محمود علي مكي - محمود محمد الطناحي أديبًا ومحققًا – مجلة الهلال – العام السابع بعد المائة – مايو 1999م.
· أيمن فؤاد السيد – محمود محمد الطناحي عالم التراث والمحقق الموسوعي – مجلة الهلال – العام السابع بعد المائة – يونيو 1999م.
· عبد الله حمد محارب – الطناحي ورحلته مع التراث العربي – مجلة العربي – العدد (491) – أكتوبر – 1999م.
· محمود محمد الطناحي – مدخل إلى تاريخ نشر التراث العربي – مكتبة الخانجي – القاهرة – 1984م
ـ[عامر مشيش]ــــــــ[27 - 07 - 2008, 03:07 م]ـ
وحمل هذه الأمانة أعلام بررة من أمثال أحمد محمد شاكر ومحمود محمد شاكر ومحيي الدين عبد الحميد، وعبد السلام هارون، والسيد أحمد صقر ومحمد أبو الفضل إبراهيم ... وهؤلاء الأفذاذ كانوا أشبه الناس بعلمائنا القدامى في سعة العلم ورحابة الأفق ورجاحة العقل، وعت صدورهم علوم العربية، فهي تنثال على أقلامهم دون كدّ أو تعب، وكتبوا صفحات مشرقة في صحائف الثقافة العربية. وتلمذ لهذا الجيل عدد من أبناء العربية النابهين من أمثال عبد الفتاح محمد الحلو، ومحمود علي مكي، وإحسان عباس، ومحمد يوسف نجم ومهدي المخزومي .. وغيرهم. وكان محمود محمد الطناحي واحدًا من أبرز هذا الجيل،
هؤلاء الأفذاذ خدموا اللغة العربية أيما خدمة ونجموا في جيل كان الله أعلم به.