تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فقد اتخذه أهل الأندلس وخواصهم قدوه فيما سنّه لهم من آدابه ولطف معاشرته، وحوى من آداب المجالسة وطيب المحادثة ومهارة الخدمة المملوكية ما لم يجده أحد من أهل صناعته، حتى ما استحسنه من طعام صار الى آخر أيام أهل الأندلس منسوباً اليه معلوماً به. وقد تفنن زرياب في أنواع الأطعمة وطريقة إعدادها مما هو موجود في المصادر، ولقبه الأندلسيون بمعلم الناس، نظير ما علمهم من اللطف والرقة وأمان الذوق.

ومن أثره أيضاً أنه دخل الأندلس وجميع من فيها من رجل وامرأة يرسلون شعرهم مفروقاً وسط الجبين عاماً للصدغين والحاجبين، فلما عاين ذوو التحصيل تحذيقه هو وولده ونساؤه لشعورهم وتقصيرها دون جباههم وتسويتها مع حواجبهم، وتدويرها الى آذانهم، وإسدالها الى أصداغهم، هوت اليه أفئدتهم واستحسنوا ذلك منه.

وكانت ملوك الأندلس تستعمل قبله زهور الورد وزهور الربعان، فكانت ثيابهم لا تسلم من زفر، فدلهم على تصعيدها بالملح وتبييض لونها، فلما جربوها أحمدوه جداً. وزرياب هو أول من اجتنى بفله الهيلون المسماة بلسانهم الأسفراج، ولم يكن أهل الأندلس يعرفونها قبله.

ومما اخترعه من الطبيخ، أنه علّم الأندلسيين طريقة الطهي العراقية، وضرورة الترتيب في تقديم الأطعمة بدلاً من وضعها دفعة واحدة.

وابتدع تنسيق الموائد وتنظيمها من حيث ترتيب الصحون واتخاذ السكاكين والشوك والملاعق، وحسن ترتيب الطعام على المائدة وأولوية الحلة، فيبدأ الآكل بالحساء أو المقبلات ثم بالخضروات واللحوم ثم الحلوى والفاكه.

ومما اخترعه من الطبيخ اللون المسمّى عندهم بالتفايا وهو مصطنع بماء الكزبرة الرطبة والكباب.

ومما أخذ عنه الناس تفضيله آنية الزجاج الرفيع على آنية الذهب والفضة، وإيثاره فرض نطاع الأديم اللينة الناعمة على ملاحف الكتان، واختيار سفر الأديم للتقديم فيها على الموائد الخشبية.

وفي اللباس، لبس زرياب كل صنف منه في زمانه الذي يليق به، فإنه رأى أن يكون ابتداء الناس بلبس الأبيض، والملون يوم مهرجان أهل البلد المسمّى عندهم بالعنصرة الواقع في ست بقين من شهر يونيه، فيلبسونه الى أول شهر اكتوبر، ويلبسون بقية السنة الثياب الملونة.

ورأى زرياب أن يلبس الأندلسيون في الفصل الذي بين الحر والبرد (الربيع) من مصبغهم جباب الخز الملحم، والحرر والدراريع التي لا بطائن لها لقربها من لطف ثياب البياض، ثم ينتقلوا الى ذوات الحشو والبطائن الكثيفة، وذلك عند قرس البرد، فإذا ما قوي البرد فينتقلوا الى أثخن منها من الملونات ويستظهرون من تحتها إذا احتاجوا الى صوف الفراء.

وقد أشاع زرياب في الأندلس موجة من الرقة والحبور حتى كان الغناء منتشراً في كل منطقة وصوب، وكان الشعر الرقيق المناسب هو المطلوب، مما أدى الى تطوير شعر الأندلس الى رقته وظرفه ولينه المعروف، فكان السبب في نشوء الموشحات الأندلسية وانتشار الزجل.

لقد ألّف زرياب ما ينوف على الألف من الألحان، وقد قيل أنها عشرة آلاف لحن وأغنية، بعضها كان أساساً لكثير من الأغاني التي استمرت قروناً عدّة، ومنها أساس الكثير من الأغاني الأجنبية المعروفة في القرون الوسطى وفجر النهضة الأوروبية ايضاً.

وعلى الرغم من عدم تسجيل تلك الألحان والموسيقى التي أرسى زرياب قواعدها، فقد توارثها الناس حتى العصر الحاضر، رغم فقدان الكثير منها. نجدها اليوم بكثرة في الشمال الأفريقي، كما نجد آثارها في الموسيقى الأسبانية مما يجعلها أقرب الى اذواقنا من أنواع الموسيقى الغربية الأخرى، نلمس ذلك واضحاً في القطعة الموسيقية المسماة (بلنسية) التي كان لها ولأمثالها كبير الأثر حتى على علماء هذا الفن في أوروبا. لقد استمر أن كل من افتتح الغناء بالأندلس يبدأ بالنشيد أول شدوه بأي نقر كان، ويأتي أثره بالبسيط، ويختم بالمحركات والأمزاج تبعاً لمراسم زرياب.

وكان أهل الأندلس ينسبون الى زرياب كل جديد يظهر في قرطبة متصلاً بالظرف وبالجمال. من ذلك إنشاء (حمام زرياب) الذي يعتبر اعجوبة قرطبة من حيث البناء الفخم وما يضمه من معمار عجيب.

وأشاع زرياب في الأندلس كلها روح الظرف وألوان شتى من الترف والتجديد في كل فن، ومن ظريف ما صنعه من ذلك تعليم الجواري كتابة الشعر على أثوابهن وعلى الآلات الموسيقية، مما لم يكن لهن به عهد، وبقيت تلك العادة حتى وفاته، واستمرت فيما بعد في بيوت المترفين من الحكام والأمراء.

ومن إضافاته في الموسيقى: تشبيع الموسيقى الأندلسية بمقامات وسلالم عديدة كانت مجهولة. وكذلك تأليف مجموعات من الموشحات الأندلسية.

ومن العناصر الجوهرية التي نقلها زرياب الى الموسيقى الأندلسية، طريقة تطبيق الإيقاع الغنائي على الإيقاع الشعري، وإقامة الغناء على أصول واسلوب النوبة الأندلسية.

وبعد سقوط الأندلس، وكان أحد أسباب سقوطها: حياة الترف التي عرفت به في عهد زرياب، نقل المهاجرون الموسيقى العربية فازدهر فنّ زرياب في تونس ومراكش والجزائر.

جاء زرياب الى مجتمع قرطبة الغني، فعمل على إمتاعه، وعلّم الأندلسيين كيف يمتّعوا أنفسهم بطريقة مختلفة، وبما يتوفر لديهم من ثراء!

على أن زرياب لقي معارضة قوية، لأحد أمرين: الأول لسبب ديني قاده علماء الدين في قرطبة، ومن مغنين منافسين من رجال البلاط مثل تمام بن علقمة والشاعر يحي الغزال. أما الفقهاء فاعتبروا الإشتغال بالموسيقى أمراً مخلاً بالشرف، ومحطاً من قدر المرء، لا يليق الإشتغال به إلا للموالي وذوي السمعة السيئة، ولذا لم يكونوا ليقبلوا شهادة المغني أوالمغنية أو النادبة، ولم يسمحوا بأن تباع كتب الموسيقى والأناشيد علناً، بل كان بعض القضاة يأمرون بكسر آلات الموسيقى التي توجد مع المغنين في الطرقات.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير